للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

الحجاب) (برِدائه)؛ بكسر الرَّاء: هو ما يستر النصف الأعلى من البدن؛ حتى لا يراني أحد من الأجانب (أنظر إلى لعبهم)؛ أي: بحرابهم، وهو يستلزم النَّظر إلى ذواتهم، ففيه دليل واضح على (١) جواز نظر النساء إلى الرجال، ووجوب استتارهن عنهم، وهذا مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنه، والجمهور من العلماء، وخالفهم الشَّافعي؛ فزعم أن نظر الأجنبية إلى الأجنبي حرام، والحديث حجة عليه.

وزعم ابن حجر أن حديث الباب لا يدل على جواز النَّظر؛ لأنَّ عائشة نظرت لعبهم وحرابهم لا وجوههم وأبدانهم، ولا يلزم منه تعمد نظر البدن، وإن وقع بلا قصد؛ صَرَفَتْه حالًا، ويحتمل أن ذلك كان قبل نزول آية الحجاب، أو عائشة لم تبلغ مبلغ النساء، ولأنه عليه السَّلام أمر ميمونة وأم سلمة وقد رآهما تنظران لابن أم مكتوم بالاحتجاب منه، فقالت له أم سلمة: أليس هو أعمى لا يبصر؟ فقال: «أفعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه؟» كذا زعمه العجلوني.

قلت: وهذا الاستدلال فاسد وبعيد عن الأفهام؛ لأنَّ عائشة كانت تنظر إلى لعبهم بالحراب، وهو يستلزم النَّظر إلى أبدانهم وذواتهم ضرورة، والنَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم لم ينهها أن تنظر ذواتهم وأبدانهم، بل أطلق لها إباحة النَّظر في لعبهم وأبدانهم وذواتهم، فبقي الحكم على العموم، ويدل لذلك ما ذكره البخاري في باب (إذا كان الثوب ضيقًا)، عن سهل الساعدي، وفيه قال النَّبي صلى الله عليه وسلم للنساء: «لا ترفعن رؤوسكن حتى يستوي الرجال جلوسًا»، وعند أحمد، وأبي داود بلفظ: «فلا ترفع رأسها حتى يرفع الرجال رؤوسهم»؛ كراهة أن يرين عورات الرجال، انتهى، فهذا يدل على إباحة نظر النساء للرجال؛ لأنَّه لو كان غير جائز؛ لما أباح لهن الصلاة خلف الرجال، وبين في الحديث أن النَّهي في رفع رؤوسهن؛ خشية رؤيتهن عورات الرجال، وهو يدل على أنَّ رؤية ذوات الرجال وأبدانهم للنساء جائز لا محظور فيه، ويدل لذلك إباحة خروج النساء للجماعات في المساجد، وكذلك خروجهن للحمامات ولأجل شراء الأكل ونحوه من الرجال الأجانب في الأسواق، ويلزم على ما زعمه الحرج في ذلك، وهو مدفوع بالنص.

وقوله: (ويحتمل أن ذلك كان قبل نزول الحجاب) : ممنوع؛ لأنَّه لو كان كذلك؛ لما كان عليه السَّلام يسترها، فستره لها دليل على أنَّه كان ذلك بعد نزول الحجاب، ولهذا كان يدخل على زوجاته عليه السَّلام البر والفاجر في ابتداء الإسلام كما قال عمر بن الخطاب، وسأله أن يحجب نساءه، فأنزلت آية الحجاب، فلو كان ذلك قبل نزولها؛ لما سترها عليه السَّلام بردائه.

وقوله: (أو عائشة لم تبلغ مبلغ النساء) : ممنوع أيضًا؛ لأنَّ قولها: (يسترني بردائه) يدل على أنَّها كانت وقتئذ بالغة مبلغ النساء.

وقوله: (ولأنه عليه السَّلام أمر ميمونة...) إلى آخره؛ هذا حديث ضعيف، كما قاله الثقات، ولئن صح؛ فهو لا يقاوم الصَّحيح على أنَّه محتمل؛ لأنَّ أم سلمة وميمونة كانتا غير متسترتين (٢) كما يستتر النساء من الرجال، فأمرهما بالاحتجاب؛ لكونهما كانتا مكشوفتين، ويدل لذلك قول أم سلمة: (أليس هو أعمى؟)؛ أي: لا يبصرنا، ونحن كذلك، ويحتمل أنَّه أمرهما بذلك؛ لأجل أن الخلوة بالمرأة الأجنبية حرام، فالنَّهي إنَّما كان لأجل الخلوة، لا لأجل النَّظر إليه، ويحتمل أن ابن أم مكتوم كان ذا (٣) ثوب واحد مستتر فيه، فخشي عليه السَّلام أن ينظرن إلى عورته، ويحتمل غير ذلك، والدليل إذا طرقه الاحتمالات؛ سقط الاستدلال به، فبقي الحكم؛ وهو حل نظر النساء للرجال بدون شهوة، وهو الصَّواب، وما عداه مكابرة وعناد، والحق أحق أن يتبع.

وفي الحديث: دليل على جواز النَّظر إلى اللعب باللهو المباح، بل هذا في الحقيقة طاعة؛ لأنَّه مما ينتفع به في الجهاد وإن كان لعبًا صورة، ولهذا جاز اللعب في المسجد، وقد ترك عليه السَّلام عائشة تنظر إلى لعبهم؛ لتضبط السُّنَة في ذلك، وتنقل تلك الحركات المحكمة إلى بعض من يأتي من أبناء المسلمين، وتعرفهم بذلك.

وفيه: حسن خلقه عليه السَّلام، ومعاشرته لأهله، وفضيلة عائشة، وعِظَم منزلتها عنده عليه وعليها السَّلام، والله أعلم.

٤٥٥ - (زاد) ولأبي الوقت: (وزاد) (إبراهيم بن المنذر) : هو ابن عبد الله الأسدي الحزامي؛ نسبة لجده حزام، وقول العجلوني والقسطلاني: الحازمي؛ خطأ ظاهر، كما لا يخفى؛ فاعرفه، (قال: حدثنا) ولأبي الوقت وابن عساكر: (حدثني)؛ بالإفراد، وفي القسطلاني: وفي رواية: (حدثه)، قال العجلوني: هو عليها من الالتفات على رأي السكَّاكي، قلت: لكن لم يعزها لأحد من الرواة، فالظَّاهر أنها تحريف، ولئن صحت؛ فهو من باب التجريد؛ بأن جرد من نفسه شخصًا فخاطبه؛ فافهم، (ابن وهب) : هو عبد الله بن وهب بن مسلم، القرشي مولاهم، المصري، وقول العجلوني: هو عبد الله بن مسلم، خطأ؛ فاجتنبه، (قال: أخبرني) بالإفراد (يونس) : هو ابن يزيد الأيلي، (عن ابن شهاب) : هو محمَّد بن مسلم الزهري المدني (عن عروة) هو ابن الزُّبير بن العوام، (عن عائشة)؛ أي: الصديقة بنت الصديق الأكبر رضي الله عنهماأنها (قالت: رأيت) أي: أبصرت (النَّبي) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله) (صلى الله عليه وسلم)؛ أي: في المسجد النَّبوي (والحبشة) : هم جنس من السودان (يلعبون بحرابهم) الجار والمجرور مفعول لقوله: (زاد ابن المنذر)؛ وهو فاعل (قال)، يعني: أن رواية إبراهيم بن المنذر مثل رواية صالح بن كيسان لكن بزيادة لفظة: (بحرابهم)، فيحصل بها المطابقة للتَّرجمة.

وقال الكرماني: (يحتمل قوله: «زاد إبراهيم» التَّعليق)، واعترضه إمام الشَّارحين فقال: (هو تعليق بلا احتمال، وقد وصله الإسماعيلي من طريق عثمان بن عمر عن يونس) انتهى.

وفي هذا دليل على جواز نظر النساء إلى الرجال، ووجوب استتارهنَّ عنهم.

وفيه: جواز اللعب بالحراب في المسجد على الوجه الذي ذكرناه، وحكى ابن التين عن أبي الحسن اللخمي: أن اللعب بالحراب في المسجد منسوخ بالقرآن والسنة؛ أما القرآن؛ فقوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ} [النور: ٣٦]، وأما السنة؛ فحديث واثلة بن الأسقع الذي أخرجه ابن ماجه: «جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم»، ورُدَّ بأنَّ الحديث ضعيف، وليس فيه ولا في الآية تصريح بما ادَّعاه، ولا عُرف التاريخ حتى يثبت النَّسخ، انتهى.

قال العجلوني: (وقد يقال: إن الحديث بنحو ما رواه البخاري في «التاريخ الأوسط» بلفظ: «جنبوا مساجدنا صبيانكم، ومجانينكم، وشرائكم، وبيعكم، وخصوماتكم، ورفع أصواتكم،


(١) في الأصل: (إلى)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٢) في الأصل: (متسترين)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٣) في الأصل: (ذي)، وليس بصحيح.

<<  <   >  >>