المعجمة (بن حرب)، بالمهملة والراء ثم الموحدة ابن أمية، ولد قبل الفيل بعشر سنين، وأسلم ليلة الفتح، وشهد الغزوات، وتوفي بالمدينة سنة إحدى وثلاثين عن ثمان وثمانين سنة، وصلى عليه عثمان رضي الله عنه.
(أخبره: أن)؛ أي: بأن (هِرَقل)؛ بكسر الهاء وفتح الراء: غير منصرف للعلمية والعجمة، ولقبه قيصر، وأول من ضرب الدنانير، وملك الروم إحدى وثلاثين سنة، وفي ملكه توفي النبي عليه السلام، والظاهر أنه الموسكوف المسمى الآن بالروسية، وقيل: إنه الفراسة، (أرسل إليه)؛ أي: إلى أبي سفيان حال كونه (في)؛ أي: مع (ركب)؛ جمع راكب كصحب وصاحب؛ وهم أولو الإبل العشرة فما فوقها، كذا قيل (من قريش) صفة لـ (ركب)؛ بضم القاف بعدها راء ومثناة تحتية ساكنة: وهم ولد النضر بن كنانة، وإنما سميت قريشًا: لأنَّهم كانوا يفتشون الحاج خلَّتهم فيسدونها، وقيل: من القرش، وقيل: باسم دابة في البحر، والله أعلم، و (من) إما بيانية أو تبعيضية، وكان عدد الركب ثلاثين رجلًا.
(و) الحال أنهم (كانوا تُجَّارًا)؛ بضم المثناة الفوقية وتشديد الجيم، على وزن (كفار) وعلى وزن (كلاب) : جمع تاجر (بالشام) بالهمز، وقد تترك، وقد تفتح الشين مع المد، وقد دخلها عليه السلام مرتين قبل النبوة مع عمه أبي طالب حتى بلغ بصرى حين لقيه الراهب، ومرة في تجارة لخديجة إلى سوق بصرى، ومرتين بعد النبوة ليلة الإسراء وفي غزوة تبوك، وتمامه في «شرح الإمام بدر الدين العيني»، (في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مادَّ)؛ بتشديد الدال من (مادد)، فأدغم الأول في الثاني من المثلين: وهو مدة صلح الحديبية سنة ست، التي ماد (فيها أبا سفيان) زاد الأصيلي: (ابن حرب)، (وكفار قريش)؛ أي: مع كفارهم على وضع الحرب عشر سنين، ونصب (كفار) على المفعول معه.
(فأتوه)؛ أي: أرسل إليه في طلب إتيان الركب، (وهم) بالميم؛ أي: هرقل وجماعته، ولأبوي ذر والوقت، والأصيلي: (وهو) (بإيلياء)؛ بهمزة مكسورة، فمثناتين آخر الحروف، أولاهما ساكنة، بينهما لام، آخره ألف مهموزة، بوزن كبرياء، [و] بالقصر، وهو بيت المقدس، (فدعاهم) هرقل حال كونه (في مجلسه وحوله)؛ بالنصب على الظرفية: خبر المبتدأ؛ وهو (عظماء الروم)؛ وهم من ولد عيص بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، وفي رواية: (وعنده بطارقته، والقسيسون، والرهبان)، (ثم دعاهم)؛ أي: أمر بإحضارهم؛ فلا تكرار، (ودعا ترجمانه) بالنصب على المفعولية، وفي رواية: (بترجمانه)، وفي رواية: (بالترجمان)؛ بفتح المثناة الفوقية وضم الجيم فيهما، وقد تضم التاء فيهما اتباعًا؛ وهو المفسر لغة بلغة، فقال له: أيكم أقرب؟ ولم يسم الترجمان.
(فقال) الترجمان: (أيكم أقرب نسبًا بهذا الرجل؟)، وفي رواية: (من هذا الرجل)، وفي رواية: (إلى هذا الرجل)، وفي رواية: (الذي خرج بأرض العرب)، (الذي يزعم)، وفي رواية: (يدعي) (أنه نبي، فقال) وفي رواية: (قال) (أبو سفيان: قلت) وفي رواية: (فقلت) : (أنا أقربهم نسبًا) وفي رواية: (أنا أقربهم به نسبًا)؛ أي: من حيث النسب، وأقربيته أبي سفيان؛ لكونه من بني عبد مناف؛ وهو الأب الرابع للنبي عليه السلام ولأبي سفيان، وإنَّما خص هرقل الأقرب؛ لأنَّه الأعلم الأتقن.
(فقال)؛ أي: هرقل، وفي رواية: (قال) : (أدنوه مني)؛ بهمزة قطع مفتوحة: من الدنو؛ وهو القرب حتى يمعن في السؤال، (وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره)؛ لئلا يستحوا أن يواجهوه بالتكذيب (إن كذب)؛ كما في رواية، (ثم قال) هرقل (لترجمانه: قل لهم)؛ أي: لأصحاب أبي سفيان (إني سائل هذا)؛ أي: أبا سفيان (عن هذا الرجل)؛ أي: النبي عليه السلام، (فإن كذبني) بالتخفيف، كذا قيل؛ (فكذِّبوه) بتشديد المعجمة المكسورة، (قال)؛ أي: أبو سفيان، وفي رواية بإسقاط لفظ: (قال).
(فوالله؛ لولا الحياء) وفي رواية: (لولا أن الحياء)، (من أن يأثروا علي) بضم المثلثة وكسرها و (عليَّ) بمعنى (عني)؛ أي: رفقتي: يرون عني (كذبًا) بالتنكير، وفي رواية: (الكذب) (لكذبت عنه)؛ أي: لأخبرت عن حاله بكذب؛ لبغضي إياه، وفي رواية: (لكذبت عليه)، (ثم كان أول ما سألني عنه) بنصب (أول) خبر (كان)، واسمها ضمير الشأن، وفي رواية: برفع (أول) اسم (كان)، وخبره قوله: (أن قال: كيف نسبه) عليه السلام (فيكم)، أهو من أشرافكم أم لا؟ قال أبو سفيان: (قلت: هو فينا ذو)؛ أي: صاحب (نسب) عظيم، فالتنوين للتعظيم، (قال) هرقل: (فهل قال هذا القول منكم) من قريش (أحد قط) بتشديد الطاء المضمومة مع فتح القاف، وقد يضمان، وقد تخفف الطاء وتفتح القاف، ولا تستعمل إلَّا في الماضي المنفي، وإنَّما استعمل هنا بغير نفي؛ لأنَّ الاستفهام حكمه حكم النفي، (قبله) بالنصب على الظرفية، وفي رواية: (مثله).
قال أبو سفيان: (قلت: لا)؛ أي: لم يقله أحد قبله، (قال) هرقل: (فهل كان من آبائه مِن) بكسر الميم؛ حرف جر (مَلِك؟)؛ بفتح الميم وكسر اللام: صفة مشبهة، وفي رواية: (مَن) بفتح الميم؛ اسم موصول، و (مَلَك) فعل ماضي، وفي رواية: (فهل كان من آبائه ملك)، قال أبو سفيان: (قلت: لا)؛ أي: لم يكن، (قال) هرقل: (فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟) وفي رواية: (أيتبعه أشراف الناس؟) بإثبات همزة الاستفهام، وفي أخرى: (فأشراف الناس اتبعوه؟) قال أبو سفيان: (قلت) : وفي رواية: (فقلت) : (بل ضعفاؤهم)؛ أي: اتبعوه.
قال ابن حجر: الأشراف هنا؛ أهل النخوة والتكبر، لا كل شريف، ليخرج مثل العمرين ممن أسلم قبل سؤال هرقل، واعترضه الإمام بدر الدين العيني؛ بأن العمرين وحمزة كانوا من أهل النخوة، فقول أبي سفيان جرى على الغالب... إلى آخره، قلت: وهو وجيه؛ فليحفظ، وفي رواية: (تبعه منا الضعفاء والمساكين)، وأما ذوو الأنساب والشرف؛ فما تبعه منهم أحد، قال ابن حجر: وهو محمول على الأكثر الأغلب.
قلت: فيه نظر؛ لأنَّ هذا المحمل بعيد جدًا؛ لأنَّ كلامه لا يعطيه ولا يشير إليه، فالأولى الحمل على أنه لم يتبعه أحد في الظاهر، وفي باطن الأمر قد اتبعوه وأخفوه حتى يعلموا ما يقع؛ فافهم.
(قال) هرقل: (أيزيدون أم ينقصون؟) بهمزة الاستفهام، وفي رواية: بإسقاطها؛ وهو جائز مطلقًا على الصحيح، قال أبو سفيان: (قلت: بل يزيدون، قال) هرقل: (فهل يرتد أحد منهم سخطة)؛ بفتح السين المهملة: منصوب على المفعول لأجله، أو على الحال؛ أي: ساخطًا، وجوَّز ابن حجر: ضم السين وفتح الخاء، ورده الإمام بدر الدين العيني بما يطول، نعم في رواية بضم السين وسكون الخاء، (لدينه بعد أن يدخل فيه؟) خرج من ارتد مكرهًا أو رغبة؛ كما وقع لابن جحش.
قال أبو سفيان: (قلت: لا)؛ أي: لم يرتد، وإنما سأل عنه؛ لأنَّ من دخل في أمر محقق لا يرجع عنه، بخلاف دخوله في الباطل.
(قال) هرقل: (فهل كنتم تتهمونه بالكذب) على الناس (قبل أن يقول ما قال؟)، قال أبو سفيان: (قلت: لا)؛ أي: لم نتهمه، وإنما عدل عن سؤال الكذب إلى سؤال التهمة؛ تقريرًا لهم على صدقه.
(قال) هرقل: (فهل يغدر؟)؛ بدال مهملة مكسورة؛ أي: ينقض العهد، قال أبو سفيان: (قلت: لا) ينقض (ونحن منه)؛ أي: النبي عليه السلام (في مدة)؛ أي: مدة صلح الحديبية أو غيبته، (لا ندري ما هو فاعل فيها)؛ أي: في المدة، وأشار بقوله: (لا ندري) إلى عدم الجزم بغدره، (قال) أبو سفيان: (ولم يمكني)؛ بالمثناة الفوقية أو التحتية، (كلمة أدخل فيها شيئًا) أنتقصه به (غير هذه الكلمة)، قيل: النقص أمر نسبي، فإن من يقطع بعدم غدره؛ أرفع درجة ممن يجوَّز ذلك، وقد كان عليه السلام معروفًا عندهم بعدم الغدر، ولكن لما كان الأمر مغيبًا؛ أمن أبو سفيان أن يُنسَب في ذلك إلى الكذب، انتهى، و (غير) رفع صفة لـ (كلمة)، ويجوز فيها النصب؛ صفة لـ (شيئًا)، لكن الرواية على الأول.
(قال) هرقل: (فهل قاتلتموه؟) إنَّما نَسب القتال إليهم ولم ينسبه له عليه السلام؛ لما علم أنَّه لا يبدأ قومه حتى يقاتلوه، قال أبو سفيان: (قلت: نعم) قاتلناه، (قال) هرقل: (فكيف كان قتالكم إياه؟) بفصل ثاني الضميرين، والاختيار ألا يجيء بالمنفصل إذا تأتى أن يجيء المتصل؛ وهو أفصح من (قتالكموه) باتصال الضمير، فلذا فصله؛ وهو الصواب، كذا قال الإمام بدر الدين العيني.
قال أبو سفيان: (قلت) وفي رواية (قال) : (الحرب بيننا وبينه سجال)؛ بكسر السين المهملة وبالجيم المخففة؛ أي: نُوَب، نوبة لنا ونوبة له؛ كما قال: (ينال منا وننال منه)؛ أي يصيب منا ونصيب منه، و (السجال)؛ بمعنى المساجلة: مرفوع خبر لـ (الحرب)، فما قاله ابن حجر غير وارد ومردود، والجملة: لا محل لها من الإعراب؛ لأنَّها مفسرة، وفي (الحرب بيننا وبينه سجال)؛ تشبيه بليغ.
(قال) هرقل: (ما) وفي رواية: (بما) وفي أخرى: (فما) (ذا يأمركم؟)؛ أي: ما الذي يأمركم به؟ قال أبو سفيان: (قلت: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئًا)، وفي رواية: بحذف الواو؛ فيكون تأكيدًا لقوله وحده، والجملة من عطف الخاص على العام، (واتركوا ما يقول آباؤكم) من عبادة الأصنام، (ويأمرنا بالصلاة) المعهودة، وفي رواية بزيادة: (والزكاة)، (والصدق)؛ القول المطابق للواقع، وفي رواية: (بالصدقة)، (والعفاف)؛ بفتح العين: الكف عن المحارم، (والصلة) للأرحام، (فقال) هرقل (للترجمان: قل له)؛ أي: لأبي سفيان: (سألتك عن نسبه، فذكرت أنه فيكم ذو) صاحب (نسب) عظيم؛ (فكذلك)، وفي رواية: بالواو (الرسل تبعث في نسب قومها)؛ لما علمه في الكتب.
(وسألتك هل قال أحد) وفي رواية: بإسقاط (هل) (منكم هذا القول) وفي رواية: (قبله)، (فذكرت أن لا، فقلت) في نفسي: (لوكان أحد قال هذا القول لقلت: رجل يأتسي)؛ بهمزة ساكنة، بعدها مثناة فوقية مفتوحة، وسين مهملة مكسورة؛ أي: يقتدي (بقول قيل قبله)، وفي رواية: (يتأسى) بتقديم المثناة الفوقية على الهمزة المفتوحة وفتح السين المشددة.
(وسألتك هل كان من آبائه مِن مَلك؟) وفي رواية: بفتح الميمين (فذكرت: أن لا، قلت) في نفسي، وفي رواية: (فقلت) : (فلو) وفي رواية: (لو) (كان من آبائه من ملك؛ قلت: رجل يطلب ملك أبيه) بالإفراد، وإنما قال: (لأبيه) ولم يقل: (لآبائه)؛ بالجمع؛ لأنَّه يكون أعذر في طلب الملك، بخلاف ما لو قال: (ملك آبائه).
قال هرقل لأبي سفيان: (وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت: أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر) اللام جحودية؛ أي: لم يكن ليدع (الكذب على الناس) قبل النبوة، (ويكذب) بالنصب (على الله) بعد إظهارها، (وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه؛ وهم أتباع الرسل) غالبًا؛ كما مر.
قال هرقل لأبي سفيان: (وسألتك أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت: أنهم يزيدون؛ وكذلك أمر الإيمان)؛ فإنَّه يزيد (حتى يتم) وحيه؛ ولهذا آخر النزول كان قوله: {اليوم أكملت} الآية [المائدة: ٣]، (وسألتك أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت: أن لا، وكذلك الإيمان حين) بالنون، وفي رواية: (حتى) بالمثناة الفوقية، (تخالط) بالمثناة الفوقية، (بَشَاشَتُه)؛