للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

حديث أبي هريرة: (أنه توضأ فغسل يديه حتى أشرع في الساقين ثم قال: هكذا رأيت رسول الله عليه السلام يتوضأ)، ولم ينقل تركها، فكان فعله بيانًا أنه مما يدخل، وقوله: (حتى أشرع)؛ أي: أدخل وروي: (حتى أسبغ)، وقدَّمنا أن هذا لا يفيد الافتراض؛ لأنَّ الفعل لا يفيده.

وروي: (أن عمَّارًا تيمم إلى المنكب وقال: تيممنا إلى المناكب مع رسول الله عليه السلام)، وكان ذلك بعموم الآية، ولم ينكر عليه من جهة اللغة؛ لأنَّه من أهل اللغة، فكان عنده أن الاسم للعضو إلى المنكب، فثبت بذلك أن الاسم يتناول إلى المنكب، وذكر التحديد بعده يقتضي ذلك إسقاط ما وراءها، وتمامه في «عمدة القاري».

والغايات أربعة: غاية مكان، وغاية زمان، وغاية عدد، وغاية فعل، فغاية المكان من هذا الحائط إلى هذا الحائط، وغاية الزمان قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} وكلاهما لا يدخلان في المغيا، وغاية العدد عليه من درهم إلى عشرة، فهي لا تدخل عند الإمام الأعظم والإمام زفر، وعند الإمام أبي يوسف والإمام محمد تدخل، وغاية الفعل: نحو أكلت السمكة حتى رأسها، فإن نصبت السين؛ دخلت وتكون (حتى)؛ بمعنى: الواو عاطفة، وإن خفضتها؛ لم تدخل وتكون (حتى)؛ بمعنى: إلى، كذا قاله الحدادي في «الجوهرة»، وتمامه في شرحنا «منهل الطلاب» «شرح مختصر الإمام القدوري»، وظاهر ما قدمناه: يفيد الوجوب لا الافتراض؛ فتأمل، والله أعلم.

وفي «الظهيرية» : من قطعت يداه ورجلاه وبوجهه جراحة يصلي بلا وضوء ولا تيمم ولا يعيد في الأصح، اهـ.

ومثله: في أكثر الكتب، وأمَّا فاقد الطهورين؛ ففي «الدر» عن «الفيض» وغيره: أنه يتشبه بالمصلين وجوبًا، فيركع ويسجد إن وجد مكانًا يابسًا، وإلا؛ يومئ قائمًا ولا يقرأ ثم يعيد وهو قول الصاحبين، اهـ.

وبه ظهر أن تعمد الصلاة بلا طهر غير مكفِّر كصلاته لغير القبلة أو مع ثوب نجس، وهو ظاهر المذهب كما في «الخانية» وغيرها، وقال بعضهم: المختار أنه يكفر بالصلاة بغير طهارة لا بالصلاة بالثوب النجس وإلى غير القبلة؛ لجواز الأخيرتين حال العذر بخلاف الأولى فإنه لا يؤتى بها بحال؛ فيكفَّر، اهـ، كما في حواشي شيخ شيخنا، ويجب غسل كل ما كان مركبًا على أعضاء الوضوء كالأصابع الزائدة والكف الزائد، فإن كان خلق على العضو؛ غَسَلَ ما يحازي محلَّ الفرض ولا يلزمه غسل ما فوقه، كذا في «الينابيع».

وقشرة القرحة إذا ارتفعت ولم يصل الماء إلى ما تحتها؛ لا بأس به في الوضوء والغسل؛ لأنَّها متصلة بالجلد اتصال الخلقة، كذا في «الجوهرة» وفي «المجتبى»، ولا يجب نزع الخاتم وتحريكه في الوضوء إن كان واسعًا، وفي الضيِّق اختلاف المشايخ؛ فروى الحسن عن الإمام الأعظم: عدم اشتراط النزع والتحريك، ومثله في «الخانية»، لكن المختار من الرواية: أنه يجب تحريك الخاتم الضيق؛ لأنَّ النبي الأعظم عليه السلام كان يحرِّك خاتمه إذا توضأ، ولو انضمَّت الأصابع أو طال الظفر فغطَّى الأنملة؛ وجب غسل ما تحته، ولا يمنع درن تحت الأظفار سواء كان قرويًا أو مدنيًا في الأصح، وعليه الفتوى، وقيل: درن المدني يمنع؛ لأنَّه من الودك بخلاف القروي؛ لأنَّه من التراب، وتمامه في «شرحنا»، والله تعالى أعلم.

({وَامْسَحُوا}) : أمر من: (مسح يمسح مسحًا)؛ أي: (فعَل يفعَل)؛ بالفتح فيهما، يقال: مسح الأرض مساحة؛ زَرَعها، ومسح المرأة؛ جامعها، وفي الشرع: المسح: الإصابة باليد المبتلَّة، ويجيء بمعنى: الغسل، كما يأتي.

({بِرُؤُوسِكُمْ}) : الجار والمجرور محله النصب على المفعولية، وهو يدل على فرضية المسح على الرأس، واختلف في المفروض منه، فقال الإمام أبو الحسن القدوري: والمفروض في مسح الرأس مقدار الناصية، وهي ما بين النزعتين من الشعر، كما في «شرح الإرشاد»، وقيل: مقدَّم الرأس، كما في «ضياء الحلوم»، وهي -أي: الناصية-: ربع الرأس، وهو ما اختاره في «الهداية»، و «التبيين»، و «شرح الوقاية».

وقال في «البحر» : الناصية: ليست قدر ربع الرأس بدليل أن صاحب «البدائع» وغيره نقلوا عن الإمام الأعظم روايتين؛ في رواية: المفروض مقدار الناصية، وفي رواية: الربع، ولا تغاير بين الروايتين؛ لأنَّ الإمام الإسبيجابي روى: أن المفروض مقدار الناصية ثم قال: هذا إذا كانت الناصية تبلغ ربع الرأس، وإن لم تبلغ؛ لا يجوز، وروى الإمام الحسن عن الإمام الأعظم: أنه الربع، وروى الكرخي والحافظ الطحاوي: أنه مقدار الناصية، فعلى هذا من روى: الربع؛ روى: الناصية.

وروى هشام عن الإمام: أن المفروض مقدار ثلاثة أصابع، وهي ظاهر الرواية عن الإمام الأعظم وعليها جرى في «النهاية»، لكن المعتمد رواية: الربع، وعليها مشى المتأخرون كابن الهمام، وابن أمير حاج، والمقدسي، وصاحب «البحر» و «النهر»، والتمرتاشي، والشرنبلالي، وعليه الفتوى؛ لأنَّ الباء في {برؤوسكم} للإلصاق عند المحققين وأنه المجمع عليه، بخلاف غيره، والفعل الذي هو المسح قد تعدَّى إلى الآلة وهي اليد؛ لأنَّ الباء إذا دخلت على الآلة تعدى الفعل إلى كل ممسوح؛ كمسحت رأس اليتيم بيدي، أو على المحلِّ تعدَّى الفعل إلى الآلة، والتقدير: وامسحوا أيديكم برؤوسكم، فيقتضي استيعاب اليد دون الرأس، واستيعابها ملصقة بالرأس لا تستغرق غالبًا سوى ربعه؛ فتعين الربع مرادًا في الآية وهو المطلوب.

وقال مشايخنا: الآية مجملة محتاجة للبيان وقد بيَّنتها السنة، ففي «صحيح مسلم» من حديث المغيرة بن شعبة: (أن النبي الأعظم عليه السلام توضَّأ ومسح بناصيته وعلى العمامة وعلى الخفين)، وعند ابن ماجه عن المغيرة: (أنه عليه السلام أتى سباطة قوم، فبال، وتوضأ ومسح على ناصيته وخفَّيه)، ورواه النسائي، وروى أبو داود عن أنسٍ قال: (رأيت رسول الله عليه السلام يتوضَّأ وعليه عمامة قطرية، فأدخل يده من تحت العمامة، فمسح مقدم رأسه)، وسكت أبو داود، وما سكت عليه؛ فهو حسن عنده، وروى البيهقي عن عطاء: (أنه عليه السلام توضأ فحسر العمامة ومسح مقدَّم رأسه، -أو قال-: ناصيته)، وهو حجَّة أيضًا وإن كان مرسلًا سيما وقد اعتضد بالمتصل، وتمام مسح المقدم: هو الربع المفسر للناصية.

فإن قلت: الحديث يقتضي بيان عين الناصية، والمدعى ربع غير معين وهو الناصية فلا يوافق الدليل؟!

أجيب: بأن الحديث يحتمل معنيين بيان المجمل وبيان المقدر، وخبر الواحد يصلح بيانًا للمجمل في الكتاب، والإجمال في المقدار دون المحل؛ لأنَّه الرأس وهو معلوم، فلو كان المراد منه مطلق البعض؛ لا يحتاج إلى البيان، فإن المسح على أدنى ما ينطلق عليه الاسم غير ممكن إلا بزيادة غير معلومة، وإن الله أفرد المسح بالذكر، ولو كان المراد بالمسح مطلق البعض؛ لم يكن للإفراد بالذكر فائدة.

فإن قلت: لا نسلِّم أن الكتاب مجمل؛ لأنَّ المجمل ما لم يمكن العمل به إلا ببيان، والعمل بالنصِّ ممكن؛ لحمله على الأقل.

قلت: لا نسلِّم أن العمل به ممكن قبل البيان، والأقل لا يكون أقل من شعرة، والمسح عليها لا يكون إلَّا بزيادة عليها، وما لا يمكن إلَّا به فهو فرض، والزيادة غير معلومة فتحقَّق الإجمال في المقدار.

فإن قلت: سلَّمنا أنه مجمل والخبر بيان له، ولكن الدليل أخصُّ من المدلول؛ لأنَّ المدلول مقدار الناصية، وهي الربع والدليل يدلُّ على تعيين الناصية.

قلنا: البيان فيه؛ لما فيه الإجمال، فكأن الناصية بيان للمقدار لا للمحل المسمى: ناصية؛ إذ لا إجمال في المحل، فكان من باب ذكر الخاص وإرادة العام، وهو مجاز شائع، فكانا متساويين في العموم.

فإن قلت: لا نسلِّم أن مقدار الناصية فرض؛ لأنَّ الفرض ما ثبت بدليل قطعي، وخبر الواحد لا يفيد القطع ولئن سلَّمناه، ولكنَّ لازمه -وهو تكفير الجاحد- منتف فينتفي الملزوم.

قلت: الأصل في هذا أن الخبر الواحد إذا لحق بيانًا للمجمل؛ كان الحكم بعده مضافًا إلى المجمل دون البيان، والمجمل من الكتاب دليل قطعي، ولا نسلِّم انتفاء اللازم؛ لأنَّ الجاحد من لا يكون مؤولًا، وموجب القول أو الجميع مؤول يعتمد شبهة

<<  <   >  >>