للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

حيث يقطع خفيه أسفل الكعبين، وأشار الإمام محمد بيده إلى موضع القطع، فنقله هشام إلى الطهارة؛ فليحفظ.

وقال ابن بطال في «شرحه» : إنَّه مذهب الإمام الأعظم.

وأجيب: بأن هذا جهل من ابن بطال بمذهب الإمام الأعظم؛ لأنَّه لم يقل به أحد من أصحابه، فهذه جرأة وسوء أدب وافتراء؛ فليحفظ.

واعلم: أن الترتيب بين أفعال الوضوء اختلف فيه؛ فقال إمامنا الإمام الأعظم: إنَّه سنَّة، واختار القدوري أنَّه مستحب، واختار غيره أنَّه واجب، والمعتمد الأول؛ لمواظبة النبي الأعظم عليه السلام على ذلك مع الترك أحيانًا، والمواظبة مع الترك تفيد السُّنِّيَّة.

وروى المؤلِّف وأبو داود: أنَّه عليه السلام تيمَّم فبدأ بذراعيه قبل وجهه، فلما ثبت عدم الترتيب في التيمم ثبت في الوضوء؛ لأنَّ الخلاف فيهما واحد، ولأنَّ الواو في الآية لمطلق الجمع لا تفيد ترتيبًا ولا تعقيبًا ولا معية؛ بإجماع أهل اللغة كما نصَّ عليه رئيس الصنعة سيبويه، وروي في «السنن» : أنَّه عليه السلام نسي مسح رأسه ثمَّ تذكر فمسحها ولم يُعِد غسل رجليه، وهو مرسل يصح الاحتجاج به عندنا.

وقال الشافعي: إنَّ الترتيب فرض للآية؛ حيث عقَّب القيام بغسل الوجه بالفاء؛ وهي للترتيب، ومتى وجب تقديم الوجه؛ تعيَّن الترتيب وهو منقوض؛ لأنَّ الفاء وإن اقتضت التشريك، لكن المعطوف على ما دخلت عليه الفاء بالواو مع ما دخلت كالشيء الواحد؛ فأفادت ترتيب غسل هذه الأعضاء على القيام إلى الصلاة، لا ترتيب بعضها على بعض، وهذا مما يُعلم بالبديهة، قال الله تعالى: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: ٩٢] فللقاتل أن يبدأ بأيِّهما شاء بالإجماع، وكذا لو قال لغلامه: إذا دخلت السوق؛ فاشتر لحمًا، وخبزًا، وموزًا؛ لا يلزمه شراء اللحم أولًا، واستُدلَّ للشافعي بحديث: «لا يقبل الله صلاة امرئ حتى يضع طهوره مواضعه، فيغسل يديه ثم يغسل به وجهه ثم ذراعيه...» الحديث، وكلمة: (ثمَّ)؛ للترتيب وهو منقوض؛ لأنَّ النووي قال: (إنَّه حديث ضعيف لا يُحتجُّ به)، على أن كلمة: «ثمَّ»؛ للتراخي ولم يقل به أحد وصار بمعنى الواو كقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} [الأعراف: ١١]؛ أي: وصورناكم.

واستُدلَّ للشافعي أيضًا بأن الله تعالى ذكر ممسوحًا بين مغسولات، والأصل: جمع المتجانس على نسق واحد، ثم عطف غيرهما، لا يُخرَج عن ذلك إلا لفائدة، وهي هنا وجوب الترتيب، وهو منقوض؛ لما نص عليه المفسرون من أن الفائدة هنا التنبيه على وجوب الاقتصاد في صب الماء على الأرجل؛ لما أنَّها مظنة الإسراف، والحاصل: أن الدليل قائم على عدم الافتراض؛ لأنَّه الأصل ومدعيه مطالب بالدليل؛ فليحفظ.

فائدة: استُدِل بهذه الآية على أن الوضوء أول ما فرض بالمدينة، وأمَّا قبل ذلك؛ فنقل ابن عبد البر اتفاق أهل السِّيَر على أن غسل الجنابة فرض على النبي الأعظم عليه السلام بمكة؛ كما افترضت الصلاة، وأنَّه لم يصل قط إلا بوضوء، وروى الحاكم في «المستدرك» من حديث ابن عباس: دخلت فاطمة على النبي عليه السلام وهي تبكي فقالت: هؤلاء الملأ من قريش قد تعاهدوا ليقتلوك، فقال: «ائتوني بوضوء؛ فتوضأ»، فهو دليل على وجود الوضوء قبل الهجرة، وأنه فرض.

وزعم ابن الجهم بأنَّه كان قبل الهجرة مندوبًا، وزعم ابن حزم بأنَّه لم يشرع إلا بالمدينة.

ورد عليهما بما أخرجه ابن لهيعة في «المغازي» التي يرويها عن أبي الأسود يتيم عروة عنه: أن جبريل علَّم النبي عليه السلام الوضوء عند نزوله عليه بالوحي، وهو مرسل، ووصله أحمد وابن ماجه من رواية راشد بن سعيد، وأخرجه الطبراني من طريق الليث بن عقيل موصولًا، والله أعلم.

(قال أبو عبد الله) يعني: المؤلف: (وبيَّن)؛ بتشديد التحتية، وللأصيلي: (قال: وبين) (النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)؛ أي: في حديث ابن عباس الآتي موصولًا في باب (أن النبي الأعظم عليه السلام توضأ مرة مرة) (أن فرض الوضوء)؛ المجمل في الآية المذكورة (مرة) للوجه ومرة لليدين و (مرة) للرأس ومرة للرجلين، وروي فيهما الرفع والنصب، أما الرفع؛ فعلى الخبرية لـ (أن) وهو أقوى الأوجه، وأمَّا النصب؛ فعلى أوجه:

أحدها: أنَّه مفعول مطلق؛ أي: فرض الوضوء غسل الأعضاء غسلة واحدة.

والثاني: أنَّه ظرف؛ أي: فرض الوضوء ثابت في الزمان المسمَّى بالمرة، ذكر هذا الوجه الكرماني، قال في «عمدة القاري» : وفيه بعد، وأقرَّه البرماوي.

الثالث: أنَّه حال سدت مسد الخبر كقراءة بعضهم {ونحن عصبة}؛ بالنصب.

الرابع: أنه نصب على لغة من ينصب الجزأين لـ (أن) كقوله: إنَّ حُرَّاسنَا أسدًا، كذا قرره في «عمدة القاري»، قال: (وفائدة التكرار: إما التأكيد أو إرادة التفصيل؛ أي: فرض الوضوء غسل مرة للوجه... إلى آخره، فالتفصيل بالنظر إلى أجزاء الوضوء، أو المعنى: فرض الوضوء في كل وضوء مرة في هذا الوضوء فالتفصيل بالنظر إلى جزئياته) انتهى.

(وتوضأ) عليه السلام (أيضًا)؛ بفتح الهمزة مصدر (أضَّ) إذا رجع، كما في الحديث؛ أتى بيانه موصولًا في باب على حدة، (مرتين مرتين)؛ بالتكرار، وفي رواية بدونه، ووجه انتصابهما مثل انتصاب (مرة) كما سبق قريبًا.

(وتوضأ) عليه السلام أيضًا (ثلاثًا)؛ أي: ثلاث مرات، وفي رواية: (وثلاثًا ثلاثًا)، وفي رواية: (وثلاثة) بالهاء، فأشار المؤلف بهذين التعليقين إلى أن الأمر من حيث هو لإيجاد حقيقة الشيء المأمور به لا يقتضي المرة ولا التكرار، بل هو محتمل لهما فبيَّن النبي الأعظم عليه السلام أن المراد منه: المرة؛ حيث غسل مرة واحدة واكتفى بها، لأنَّه لو لم يكن الفرض إلا مرة واحدة؛ لم يجز الاجتزاء بها، وأشار بقوله: (مرتين) و (ثلاثًا) إلى أن الزيادة عليها مندوب إليها؛ لأنَّ فعل الرسول عليه السلام يدل على الندب غالبًا إذا لم يكن دليل على الوجوب بكونه بيانًا للواجب.

قال في «عمدة القاري» : وبيان النبي الأعظم عليه السلام أن فرض الوضوء مرة مرة؛ وقع في حديث ابن عباس: أنه عليه السلام توضأ مرة مرة، وهو بيان بالفعل لما أجمل في الآية، وحديث أبي بن كعب: أنه عليه السلام دعا بماء فتوضأ مرة مرة وقال: «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به»، ففيه بيان بالقول والفعل، وهذا أخرجه ابن ماجه، ولكنه ضعيف، وله طرق أخرى كلها ضعيفة، وتمامه فيه، قلت: يحتمل أنه صار حسنًا لغيره لتعدد طرقه وعدم اشتداد ضعفها؛ فليحفظ.

(ولم يزد)؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام (على ثلاث) بدون التاء، وهي الرواية الصحيحة، كما في «عمدة القاري»، وهو القياس؛ لأنَّ المعدود مؤنث، وفي رواية بالتاء، فإما أوله بـ (أشياء) وإما لأنَّه محذوف، كذا قيل.

قال في «عمدة القاري» : المعنى أنه لم يأت في شيء من الأحاديث المرفوعة في صفة وضوء النبي الأعظم عليه السلام أنه زاد على ثلاث؛ بل ورد عنه عليه السلام ذم من زاد عليها، وهو ما رواه أبو داود وغيره من طريق عمرو بن شعيب: أن النبي عليه السلام توضأ ثلاثًا ثلاثًا ثم قال: «من زاد على هذا أو نقص؛ فقد أساء وظلم»، وإسناده جيد، وكيف يكون ظالمًا بالنقصان وقد ورد في الأحاديث الوضوء مرة مرة ومرتين كما سبق؟

وأجيب عنه بأجوبة:

<<  <   >  >>