فلما تجدد للملك المظفر ما تجدد عزم على قصد تلك البلاد وأخذها بسيفه، ومالت إليه عساكر مصر لبذله وشجاعته، فعبر بعسكره إلى الجيزة، وقدّم مملوكه بوزأبة (١) في المقدمة.
ولما بلغ السلطان ذلك كتب إليه يأمره بالقدوم عليه، فلم يسعه مخالفة عمه، وقبّح عليه جماعة من الأكابر المشاققة، وعرفوه أن عمه السلطان يخرج من يده
(١) الأصل: " موربا " وعند العماد (الروضتين، ج ٢، ص ٧٠) " يوزبا ": وما هنا عن (ابن الأثير ج ١١، ص ١٩٧)؛ هذا ورواية العماد أكثر تفصيلا في هذا الموضوع الهام، فآثزنا نقلها هنا لتتم الفائدة، قال: " فعبر (أي تقى الدين) إلى الجيزة مظهرا أنه يمضى إلى بلاد المغرب ليتملكها، وكتب يسأل السلطان ألا يمنعه من سلوك مسلكها، وسمت همته إلى مملكة جديدة، وأقاليم مديدة، وبلاد واسعة، ومدن شاسعة، وقد كان أحد مماليكه المعروف بقراقوش قد جمع من قبل الجيوش، وسار إلى بلاد برقة فملكها، وهزته الأمنية للنفائس من بلاد نفوسة فأدركها، وتجاوز إلى إفريقية وهو يكتب أبدا إلى مالكه الملك المظفر يرغبه في تلك المملكة، ويقول: إن البلاد سائبة؛ فلما تجدد لتقى الدين ما تجدد، وتمهد لعمه العادل ما تمهد، عاد له ذكر المغرب، فعبر بعسكره، ومالت إليه عساكر مصر لبذله، وقدم مملوكه يوزبا في المقدمة، فلما انتهى إلى السلطان خبر عزمه، قال: لعمرى إن فتح المغرب مهم، لكن فتح البيت المقدس أهم، والفائدة به أتم، والمصلحة منه أخص وأعم، وإذا توجه تقى الدين واستصحب معه رجالنا المعروفة ذهب العمر في افتناء الرجال، وإذا فتحنا القدس والساحل طوينا إلى تلك الممالك المراحل، وعلم نجاح تقى الدين في ركوب تلك اللجة، فكتب إليه يأمره بالقدوم عليه. . . . . . وكتب القاضى الفاضل إلى تقى الدين: " سبب هذه الخدمة ما اتصل بالمملوك من تردد رسائل مولانا في التماس السفر إلى الغرب والدستور إليه، (يكفى الزمان فما لنا نستعجل)؛ يا مولانا: ما هذا الواقع الذى وقع؛ وما هذا الغريم من الهم الذى ما اندفع؟ بالأمس ما كان لكم من الدنيا إلا البلغة، واليوم قد وهب الله هذه النعمة، وقد كان الشمل مجموعا، والهم مقطوعا ممنوعا، أفتصبح الآن الدنيا ضيقة علينا وقد وسعت، والأسباب بنا مقطوعة ولا والله ما انقطعت؟ يا مولانا: إلى أين؟ وما الغاية؟ وهل نحن في ضائقة من عيش أو في قلة من عدد أو في عدم من بلاد أو في شكوى من عدم؟ كيف نختار على الله وقد اختار لنا؟ وكيف ندبر لأنفسنا وهو قد دبر لنا؟ وكيف ننتجع الجدب ونحن في دار الخصب؟ وكيف نعدل إلى حرب الإسلام المنهى عنها ونحن في المدعو إليها من حرب أهل الحرب؟ معاشر الخدام والجيش وأرباب العقول والآراء: أليس فيكم رجل رشيد؟ تعقب الرأى وانظر في أواخره فطالما اتهمت قدما أوائله لا زال مولانا يمضى الآراء صائبة، ويلحظها بادية وعاقبة، ولا خلت منه دار إن خلت فهيهات أن تعمر، ولا عدمته أيام إن لم تطلع فيها شمس وجهه دخلت في عداد الليالى فلم تذكر ".