للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

العسكر، وهو - رحمه الله - كالوالهة الثكلى، يسير من طلب إلى طلب، ويحث الناس على الجهاد، وينادى " يا للإسلام "، وعيناه تذرفان الدموع، ولم يطعم هو ولا الناس في ذلك اليوم طعاما، وإنما شرب شيئا أشار به الطبيب، ثم عاد إلى مخيمه لما هجم الليل، ثم ركب سحرا في العساكر، فأصبحو على ما أمسوا عليه.

ووصلت مطالعة من البلد يخبرون بعجزهم عن مقاومة العدو وأنهم ضعفوا غاية ليس بعدها إلا التسليم، ويقولون:

" نحن في الغد نسلم البلد ونطلب الأمان إن لم تعملوا معنا شيئا، ونشترى مجرد رقابنا ".

وكان هذا أنكى خبر ورد على المسلمين، فإن عكا كانت قد احتوت على جميع سلاح الساحل والقدس ودمشق وحلب ومصر، فرأى السلطان - رحمه الله - مهاجمة العدو، فلم يساعده العسكر، فإن الرجالة من [٣٨٠] الفرنج وقفوا كالسور المحكم البناء بالسلاح والزنبورك (١) والنشاب (٢) من وراء أسوارهم، وهجم عليهم بعض الناس من بعض أطرافهم، فثبتوا وذبوا غاية الذبّ، فحكى بعض من دخل عليهم أسوارهم أنه كان واحد من الفرنج صعد سور خندقهم وجماعة يناولونه الحجارة وهو يرمى بها على المسلمين، فوقع فيه زهاء عن خمسين سهما وحجرا وهو يتلقاها، ولم يمنعه ذلك عما هو بصدده من الذب، حتى ضربه زرّاق بنفط فأحرقه.

ولم تزل الحرب قائمة إلى الليل، وضعفت نفوس أهل البلد وتمكن العدو من الخنادق فملؤوها، ونقبوا سور البلد وحشوه وأحرقوه، فوقعت بدنة من الباشورة، فدخل العدو إليها وقتل منهم فيها زهاء عن مائة وخمسين نفسا، وكان منهم ستة أنفس من كبارهم، فقال لهم واحد منهم: " لا تقتلونى حتى أرحل الفرنج عنكم بالكلية "، فبادر رجل من الأكراد فقتله وقتل الخمسة الباقية.


(١) راجع ما فات هنا ص ٢٤٤، هامش ١
(٢) راجع ما فات هنا ص ٢٦٢، هامش ١

<<  <  ج: ص:  >  >>