للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال ابن القيم -رحمه الله-: فذكر سبحانه هذه الأجناس الأربعة، ونفى عن كلِّ واحدٍ منها الآفة التي تعرض له في الدنيا، فآفة الماء أنْ يأسن ويأجن من طول مكثه، وآفة اللبن أن يتغير طعمه إلى الحموضة، وأنْ يصير قارصًا، وآفة الخمر كراهة مذاقها المنافي للذَّة شربها، وآفة العسلِ عدم تصفيته. وهذا من آيات الرب تعالى أنْ يُجري أنهارًا من أجناس لم تجر العادة في الدنيا بإجرائها، ويُجْرِيْها في غير أخدود، وينفي عنها الآفات التي تمنع كمال اللَّذة بها … فإنْ قيل: فقد وصفَ سبحانه الأنهارَ بأنَّها جارية، ومعلوم أنَّ الماء الجاري لا يأسن، فما فائدة قوله: {غَيْرِ آسِنٍ}؟ قيل: الماء الجاري وإنْ كان لا يأسَن، فإنَّه إذا أُخِذَ منه شيء وطال مكثه أسن، وماء الجَنَّة لا يَعْرض له ذلك، ولو طال مكثه ما طال … قال: وتأمَّل اجتماع هذه الأنهار الأربعة، التي هي أفضل أشربة النَّاس، فهذا لريِّهم وطهورهم، وهذا لقوَّتهم وغذائهم، وهذا للذَّتهم وسرورهم، وهذا لشفائهم ومنفعتهم ا. هـ (١)

قال: وأنهار الجنَّة تتفجَّر من أعلاها، ثمَّ تنحدر نازلةً إلى أقصى درجاتها: كما روى البخاري في "صحيحه" من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: «إِنَّ فِي الجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ، بَيْنَ كُلُّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسألُوهُ الفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ وسَطُ الجَنَّةِ، وَأَعْلَى الجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الجَنَّةِ» (٢)

وذكر مسروق عن عبد اللَّهِ -يعني ابن مسعود -رضي الله عنه-، قال: «إِنَّ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ تَفَجَّرُ مِنْ جَبَلِ مِسْكٍ». وهذا موقوفٌ صحيح (٣)


(١) المرجع السابق (١/ ٣٧٨)
(٢) صحيح البخاري (٢٧٩٠، ٧٤٢٣)
(٣) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (٣٣٩٥٨)، وهناد في الزهد (٩٤) وابن أبي حاتم في تفسيره (٢٥٤)، والبيهقي في البعث والنشور (٢٦٧)

<<  <  ج: ص:  >  >>