الملامسة بمعنى الجماع كيف يكون مس الذكر مثله؟! فيلزم من ذلك أن يجب الغسل، ولنا أحاديث كثيرة وأخبار شهيرة على أنَّ مسَّ الذكر غير ناقض؛ منها: أنَّه سئل عليه السلام عن مسِّ الذكر، فقال: «هل هو إلا بضعة منك؟!» فكان الذكر كاليد والرجل، والإجماع منعقد على أنَّ الشخص إذا مسَّ يده أو رجله لا ينتقض وضوءُه، فكذا هذا بنصِّ الشارع عليه السلام، وأما قوله تعالى: {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} [الأنعام: ٧]، وقوله عليه السلام لماعز: «لعلَّك لمست»؛ فالقرينة الحالية وكذا المقالية عيَّنت أنَّه مسُّ اليد، وكلامنا عند عدم القرينة، وهو لا يكون إلا كناية عن الجماع، وتفسير ابن عمر الملامسة بجسِّ اليد قد ثبت أنَّه رجع عنها إلى معنى الجماع، فاللفظ مخصوص به؛ فافهم.
وإذا عُلِم أن المراد من الغائط الكناية عن قضاء الحاجة؛ عُلِم أن الناقض كل خارج من البدن، فيشمل البول، والغائط، والدم، والقيح، والقيء، والحجامة، وغيرها، فالبول والغائط ثبت بالنصِّ وما ألحق بهما ثبت بدلالته وبالأحاديث المشهورة؛ فافهم.
(وقال عطاء) هو ابن أبي رباح، مما وصله ابن أبي شيبة في «مصنفه» بإسناد صحيح (فيمن يخرج من دبره الدود أو من ذكره نحو القملة) واحدة القمل، وهو معروف، وفي معنى الذكر قُبُل المرأة قال: (يعيد الوضوء)؛ لانتقاضه بذلك، فيلزم قطعًا إعادة الصلاة، وفي رواية: (يعيد الصلاة) بدل (الوضوء)، قيَّد بالدودة من الدبر؛ لأنَّه لو خرجت الدودة من الأذن، أو الفم، أو الأنف، أو الجراحة؛ لا ينتقض الوضوء بها، وهذا مذهب الإمام الأعظم، وابن مسعود، وابن عباس، والثوري، وأبو ثور، وإسحاق، والشافعي، وأحمد، وغيرهم، واحتجُّوا بحديث علي بن أبي طالب الآتي في الباب في المذي، وقِيْس عليه نحو القملة، والحصى، وغيرهما، وخالف في ذلك قتادة ومالك فقالا: بإعادة الصلاة دون الوضوء، وهو مرويُّ عن النخعي.
وقال داود: النادر لا ينقض الوضوء وإن دام إلا المذي؛ لقوله عليه السلام: «لا وضوء إلا من صوت أو ريح»، وأجيب: بأنه إذا أوجب الوضوء بالمعتاد الذي تعمُّ به البلوى، فغيره من باب أولى، والإجماع قائم على أنَّه ليس المراد حصر الناقض للوضوء بالصوت أو الريح الذي في الحديث، بل المراد نفي وجوب الوضوء بالشكِّ، وأما حديث صفوان: (لكن من غائط، وبول، ونوم)، فإنَّه بيَّن فيه جواز المسح وبعض ما يمسح بسبب، ولم يقصد بيان جميع النواقض، ألا تراه لم يذكر فيه الريح وزوال العقل وهما مما ينقض بالإجماع، ودم الاستحاضة ناقض في قول عامَّة العلماء.
وقال ابن حزم: المذي، والبول، والغائط من أي موضع خرج من الدبر، والإحليل، أو المثانة، أو البطن، وغير ذلك من الجسد، أو الفم ناقض للوضوء؛ لعموم أمره عليه السلام بالوضوء عنها، ولم يخص موضعًا من موضع، وبه قال إمامنا رضي الله عنه.
وأمَّا الريح الخارجة من ذكر الرجل وقُبُل المرأة؛ فإنَّها لا تنقض الوضوء؛ لأنَّها ليست بريح حقيقة، وإنما هي اختلاج، وهو يحصل في جميع أعضاء الجسد، كما بيَّنتُ ذلك في رسالة سميتها «احتجاج الإقضاء في بيان اختلاج الأعضاء»، وأما المرأة المفضاة -وهي التي اختلط مسلك بولها ووطئها وصارا واحدًا، أو التي صار مسلك الغائط والوطء منها واحدًا-؛ فالريح الخارج منها ناقض؛ فيجب عليها الوضوء، وهو قول الإمام محمد الشيباني، وبه أخذ الإمام أبو حفص البخاري للاحتياط، وقيل: إنَّ كان الريح مسموعًا أو منتنًا؛ نقض، وإلا؛ فلا، كما في «شرح المنية» للبرهان الحلبي، وقيل: إنَّه يستحب لها الوضوء ولا يجب؛ لأنَّه يحتمل أنَّها خرجت من الدبر، فتنقض، ويحتمل أنَّها خرجت من الفرج؛ فلا تنقض، والأصل: تيقن الطهارة والناقض مشكوك فيه فلا ينتقض وضوءُها بالشك، لكن يستحب لها الوضوء؛ لإزالة الاحتمال، كذا في «الجوهرة» و «شرح الهاملية».
(وقال جابر بن عبد الله) رضي الله عنهما، مما وصله البيهقي في «المعرفة»، وأبو شيبة في «سننه» : (إذا ضحك) أي: المصلي سواء كان رجلًا أو امرأةً (في الصلاة) وهو ما كان مسموعًا له، ولمن عن يمينه أو عن يساره فقط دون جيرانه؛ وهم أهل مجلسه؛ (أعاد الصلاة) وحكمة الإعادة للزجر؛ لأنَّه واقف في عبادة الله عزَّ وجلَّ، فينبغي أن يكون على أكمل الأوصاف، (ولم يعد الوضوء)؛ لعدم انتقاضه بذلك، وهو مذهب الإمام الأعظم، وأصحابه منهم الليث، وهو قول مالك والشافعي، وأمَّا التبسم؛ وهو ما لا صوت له أصلًا بل تبدو أسنانه فقط؛ فهو غير مبطل للوضوء والصلاة جميعًا، وظاهره أنَّ التبسم في الصلاة غير مكروه، كما في «البحر»، لكن في «شرح الملتقى» للداماد (١) أنَّه قال: (تكره الصلاة به؛ لأنَّه ينافي الخشوع) انتهى.
وأمَّا القهقهة؛ فإنَّها تنقض الوضوء عند الإمام الأعظم، وأصحابه، والثوري، والأوزاعي، وهي كما قاله في «البحر» : (أن يقول: قه قه؛ لغة، واصطلاحًا: ما يكون مسموعًا له ولجيرانه بدت أسنانه أو لا) انتهى، وفي «المنية» : (وحد القهقهة: قال بعضهم: ما يظهر القاف والهاء، ويكون مسموعًا له ولجيرانه، وقال بعضهم: إذا بدت نواجذه، ومنعه عن القراءة) انتهى، في «القاموس» : (قهقه: رجَّع -بالتشديد- في ضحكه، أو اشتد ضحكه؛ كـ «قهَّ» فيهما، أو «قهَّ» : قال في ضحكه: قه) انتهى وهو موافق لما قاله في «البحر».
ويشترط إظهار الهاء والقاف، أو بدل القاف وهو الألف مع الهاء، وهو المستعمل في كلام الناس، والمراد: من بقربه هم أهل مجلسه، فيشترط سماع جميع أهل مجلسه، فلو سمع بعضهم، ولم يسمع البعض الآخر؛ لا تكون قهقهة، بل هو ضحك غير مفسد للوضوء، كذا قاله شيخ شيخنا، واعتمده في «منهل الطلاب»؛ فليحفظ؛ لما رواه الدارقطني، عن أبي المليح، عن أبيه: بينا نحن نصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ أقبل رجل ضرير البصر فوقع في حفرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ضحك منكم؛ فليعد الوضوء والصلاة»، ورواه أيضًا من حديث أنس، وعمران بن حصين، وأبي هريرة، والمراد من قوله: من ضحك في الصلاة فقهقه؛ فليعد الوضوء والصلاة، رواه ابن عدي في «الكامل» من حديث بقية عن ابن عمر رضي الله عنهما، والأحاديث يفسِّر بعضها بعضًا، وما زعمه ابن الجوزي: من أنَّ بقية مدلس؛ ممنوع؛ فإنَّ بقية قد صرَّح بالتحديث، وهو صدوق كما وثَّقه الحفَّاظ.
على أنَّ لنا في هذا الباب أحد عشر حديثًا عن النبيِّ الأعظم عليه السلام، منها أربعة مرسلة، وسبعة مسندة:
فأول المراسيل: حديث أبي العالية رفيع بن مهران الرياحي البصري، رواه عنه عبد الرزاق، عن قتادة، عن أبي العالية، وهو عدل ثقة، وثَّقه يحيى، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وروى له الجماعة: (أن أعمًى تردَّى في بئر، والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه، فضحك بعض من كان يصلي معه عليه السلام، فأمر عليه السلام من كان معهم أن يعيد الوضوء ويعيد الصلاة)، وأخرجه
(١) في الأصل: (للدامات).