للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

وكذا لمسلم من رواية معاوية بن قرة، عن أنس، وفي (المغازي) عن سَعِيْد بن أبي عروبة، عن قتادة: (أن ناسًا من عكل وعرينة)؛ بالواو العاطفة، قيل: هو الصواب، والدليل عليه: ما وقع في رواية أبي عوانة، والطبري من حديث قتادة، عن أنس قال: (كانوا أربعة عن عرينة، وثلاثة من عكل)، قال: هذا يخالف ما عند المؤلف في (الجهاد) من طريق وهيب عن أيُّوب، وفي (الديات) من طريق حجاج الصواف، عن أبي رجاء؛ كلاهما عن أبي قلابة، عن أنس: (أن رهطًا من عكل ثمانية)، ووجهه أنه صرح بأن الثمانية من عكل، ولم يذكر عرينة، ويمكن التوفيق بأن أحدًا من الرواة طوى ذكر عرينة؛ لأنَّه روي عن أنس تارة: (من عكل أو عرينة)، وتارة: (من عرينة) بدون ذكر (عكل)، وتارة: (من عكل وعرينة)، كما بيَّنَّا.

قال في «عمدة القاري» : لا مخالفة أصلًا؛ لاحتمال أن يكون الناس من غير القبيلتين وكان من أتباعهم فنسب إليهم، وغفل من نسب عدتهم ثمانية لأبي يعلى، وغلط من نسبهم لبني فزارة؛ كعبد الرزاق؛ لأنَّ بني فزارة من مضر لا يجتمعون مع عكل ولا مع عرينة أصلًا، وهؤلاء المذكورون كانوا في الصفة قبل أن يطلبوا الخروج، كما عند المؤلف في (المحاربين)، وأسلموا وبايعوا النبيَّ عليه السلام على الإسلام.

(فاجْتَوَوُا) : الفاء فيه للعطف، وهو بجيم ساكنة، بعدها مثناة فوقية مفتوحة، بعدها واوين أولاهما مفتوحة، وثانيهما مضمومة، وضميره يعود على الأناس المتقدمين؛ أي: استوخموا (المدينة) كما عند ابن ماجه في روايته بدل (فاجتووا)؛ أي: أصابهم الجوى؛ بالجيم وهو داء الجوف؛ إذا تطاول، وقيل: هو كراهة المقام في مكان يقال: اجتويت البلد؛ إذا كرهتها، وإن كانت موافقة لك في بدنك وكنت في نعمة واستوبلتها؛ إذا لم توافقك في بدنك وإن أحببتها، وقيَّده الخطابي بما إذا تضرر بالإقامة، قيل: هو المناسب لهذه القصة، وقيل: معناه: لم توافقهم، وقيل: الجوى: داء قريب من الوباء، وللمؤلف من رواية سَعِيْد عن قتادة في هذه القصة، فقالوا: (يا نبي الله؛ إنا كنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف)، وله في (الطب) عن أنس: (أن ناسًا كان بهم سقم قالوا: يا رسول الله؛ آونا وأطعمنا، فلما صحوا؛ قالوا: إن المدينة وخمة)، وفي رواية أبي عوانة من رواية غيلان عن أنس: (كان بهم هزال شديد)، وعنده من رواية ابن سعد عنه: (مصفرًا ألوانهم بعد أن صحت أجسادهم، فهو من حمى المدينة)، والظاهر: أنهم قدموا سقامى، فلما صحوا منه؛ كرهوا الإقامة بالمدينة لوخمها، والسقم الذي كان بهم، فقد كان بهم هزال شديد، وجهد من الجوع جهيد، وكانت ألوانهم مصفرة، وأما الوخم الذي شكَوا منه بعد أن صحت أجسادهم؛ فهو من حمى المدينة، كما عند أحمد، وأبي عوانة، وسيأتي في (الطب) : (أنه عليه السلام دعا الله أن ينقلها إلى الجحفة)، وعند الإمام مسلم عن أنس: (أنه وقع بالمدينة المُوْم)، وهو بضمِّ الميم، وسكون الواو: البِرسام؛ بكسر الموحدة، سرياني معرب يطلق على اختلال العقل، وعلى ورم الرأس، وعلى ورم الصدر، وهو المراد هنا، يدل له ما عند أبي عوانة عن أنس في هذه القصة: (فعظمت بطونهم)؛ أي: فطلبوا منه الخروج، ففي «مسلم» : (أنهم بدؤوا بطلب الخروج إلى اللقاح، فقالوا: يا رسول الله عليه السلام؛ قد وقع هذا الوجع، فلو أذنت لنا؛ فخرجنا إلى الإبل)، وللمؤلف من رواية وهيب أنهم قالوا: (أبغنا رسلًا)؛ أي: اطلب لنا لبنًا، قال: «ما أجد لكم إلا أن تلحقوا بالذود»، (فأمرهم النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم بلِقاح) أي: فأمرهم أن يلحقوا بها، وهي بكسر اللام؛ وهي الإبل، الواحدة لقوح، وهي الحلوب؛ مثل: قلوص وقلاص، قال أبو عمرو: فإذا نتجت؛ فهي لقوح شهرين أو ثلاثة، ثم هي لبون بعد ذلك، وعند المؤلف من رواية همام عن قتادة: (فأمرهم أن يلحقوا براعيه)، وعنده من رواية قتيبة عن حمَّاد: (فأمر لهم)؛ بزيادة اللام، ووجهها أن تكون (اللام) زائدة أو للاختصاص، وليست للتمليك، وعند أبي عوانة من رواية معاوية بن قرة التي أخرج مسلم إسنادها: (أنهم بدؤوا بطلب الخروج إلى اللقاح، فقالوا: يا رسول الله؛ قد وقع هذا الوجع، فلو أذنت لنا؛ فخرجنا إلى الإبل)، وللمؤلف من رواية وهيب عن أيُّوب: (أنهم قالوا: يا رسول الله؛ أبغنا رسلًا)؛ أي: اطلب لنا لبنًا، قال: «ما أجد لكم إلا أن تلحقوا بالذود»، وفي رواية أبي رجاء: (هذه نعم لنا تخرج، فاخرجوا فيها)، وله في (المحاربين) عن موسى، عن وهيب بسنده: (فقالوا: إلا أن تلحقوا بإبل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم)، وله فيه من رواية الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير بسنده: (فأمرهم أن يأتوا إبل الصدقة)، وكذا في (الزكاة) من طريق شعبة، عن قتادة، وطريق التوفيق بين هذه الأحاديث: أنه عليه السلام كانت له إبل من نصيبه من المغنم، وكان يشرب لبنها، وكانت ترعى مع إبل الصدقة، وأخبره مرة عن إبله، ومرة عن إبل الصدقة؛ لاجتماعهم في موضع واحد، كذا في «عمدة القاري».

وزعم ابن حجر أن الجمع بينها أن إبل الصدقة كانت ترعى خارج المدينة، وصادف بعث النبيِّ عليه السلام بلقاحه إلى المرعى، فطلب هؤلاء النفر الخروج إلى الصحراء؛ لشرب ألبان الإبل، فأمرهم أن يخرجوا معه إلى الإبل، ففعلوا ما فعلوا، انتهى.

قلت: وفيه نظر، وقال القاضي عياض: (اللقاح؛ بكسر اللام، ويقال: بفتحها: وهي ذوات الألبان)، وذكر ابن سعد والواقدي: أن عدد هذه اللقاح خمس عشرة (١)، وأنهم نحروا منها واحدة يقال لها: الحناء، وعند أبي عوانة: وكانت اللقاح ترعى بذي الجَدْر؛ بفتح الجيم، وسكون الدال المهملة؛ ناحية قباء قريبًا من عين، بينها وبين المدينة ستة أميال.

وقوله: (وأن يشربوا) عطف على (لقاح)؛ نحو: أعجبني زيد ولبنه، وكلمة (أن) مصدرية؛ والتقدير: فأمرهم بالشرب (من ألبانها وأبوالها) وفي رواية: (من أبوالها وألبانها)؛ أي: فأمرهم بالشرب من أبوال الإبل وألبان اللقاح؛ لأجل التداوي، وفي رواية المؤلف عن أبي رجاء: (فاخرجوا فاشربوا من ألبانها وأبوالها)؛ بصيغة الأمر، وفي رواية شعبة عن قتادة: (فرخص لهم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا)، (فانطلقوا)؛ أي: وشربوا منهما حتى صحُّوا لما أنها كانت ترعى الشيح والفيوم، فتدخل في علاج مرض الاستسقاء، فشرَّبهم لبن الصدقة؛ لكونهم أبناء سبيل، وشربهم لبن اللقاح الذي للنبيِّ الأعظم عليه السلام؛ لكونه بإذن منه عليه السلام، ففيه: دليل على أنه لا يجوز التصرف في مال الغير إلا بالإذن، ولو علم الرضا ولم يستأذن؛ لا يجوز؛ لأنَّ الرضا أمر موهوم والأحكام لا تُبْنَى إلا على اليقين؛ فافهم، (فلما صحُّوا)؛ بتشديد الحاء المهملة المضمومة، فيه حذف؛ تقديره: فشربوا من ألبانها وأبوالها، ويدل عليه رواية أبي رجاء: (فانطلقوا فشربوا من ألبانها وأبوالها)، وفي رواية وهيب: (وسمنوا)، وفي رواية الإسماعيلي من رواية ثابت: (ورجعت إليهم ألوانهم)؛ (قتلوا) جواب (لما) (راعي النبيِّ) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله) (صلَّى الله عليه وسلَّم) واسمه يَسار؛ بفتح التحتية أوله، وبالسين المهملة الخفيفة، وكان نونيًّا أصابه النبيُّ الأعظم عليه السلام في غزوة محارب،


(١) في الأصل: (خمسة عشر)، ولعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>