فلما رآه يحسن الصَّلاة؛ أعتقه، وبعثه في اللقاح الذي له إلى الحرة، فكان بها إلى أن قتله العرنيون، وفي «طبقات ابن سعد» : (أرسل رسول الله عليه السلام في إثرهم كرز بن جابر الفهري، ومعه عشرون فارسًا، وكان العرنيون ثمانية، وكانت اللقاح أدركهم يسار مولى رسول الله عليه السلام، ومعه نفر، فقاتلهم فقطعوا يده ورجله، وغرزوا الشوك في لسانه وعينيه حتى مات، ففعل بهم النبيُّ عليه السلام كذلك، وأنزل عليه: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ...}؛ الآية [المائدة: ٣٣]، فلم يسمل بعد ذلك عينًا)، وقال ابن عيينة: (كان أمير السرية سَعِيْد بن زيد بن عمر بن نفيل، وحمل يسار رضي الله عنه ميتًا، فدفن بقباء)، وزعم الرشاطي أنهم من غير عرينة التي في قضاعة، وفي «مصنف عبد الرزاق» : (كانوا من بني فزارة)، وفي «كتاب ابن الطلاع» : (أنهم كانوا من بني سليم)، وفيه نظر؛ لأنَّ هاتين القبيلتين لا يجتمعان مع العرنيين، وفي «مسند الشاميين» للطبراني عن أنس: (كانوا سبعة؛ أربعة من عرينة، وثلاثة من عكل)، فقيل: العرنيين؛ لأنَّ أكثرهم كان من عرينة، وقال الطبري بإسناده إلى جرير بن عبد الله البجلي قال: (قدم قوم من عرينة حفاة، فلما صحُّوا واشتدوا؛ قتلوا رعاة اللقاح، فبعثني رسول الله عليه السلام، فلما أدركناهم بعدما أشرفوا على بلادهم...)؛ فذكره إلى أن قال: (فجعلوا يقولون: الماء الماء، ورسول الله عليه السلام، يقول: «النار النار») انتهى.
قلت: هذا مشكل؛ لأنَّ قصة العرنيين كانت في شوال سنة ست، كما ذكرنا، وإسلام جرير في السنة العاشرة، وهذا قول الأكثرين إلا أن الطبراني وابن قانع قالا: أسلم قديمًا، فإن صح ما قالاه؛ فلا إشكال، كذا في «عمدة القاري».
(واستاقوا) من الاستياق؛ وهو السوق؛ بالسين المهملة (النَّعَم)؛ بفتحتين، واحد الأنعام، وهي الأموال الراعية، وأكثر ما يقع هذا الاسم على الإبل، كذا في «عمدة القاري»، وفي «القاموس» : (النَّعَم؛ بفتحتين، وقد تسكن عينه: الإبل والشاء، أو خاص بالإبل، والجمع أنعام، وجمع الجمع أناعيم) انتهى.
وبهذا ظهر فساد ما زعمه ابن حجر من أن النعم الإبل والبقر والغنم؛ فتأمل.
وفي القسطلاني وفي بعض النسخ: (واستاقوا إبلهم) انتهى، فهو يعين أن النعم خاص بالإبل؛ فافهم.
(فجاء الخبر في أول النهار) وفي رواية وهيب عن أيُّوب: (فجاء الصريخ)؛ بالصاد المهملة، والخاء المعجمة، وهو فعيل بمعنى فاعل؛ أي: صرخ بالإعلام بما وقع منهم، وهذا الصارخ هو أحد الراعيَين، كما ثبت في «صحيح أبي عوانة» من رواية معاوية بن قرة عن أنس، وقد أخرج إسناده، ولفظه: (فقتلوا أحد الراعيين، وجاء الآخر قد جزع، فقال: فقتلوا صاحبي، وذهبوا بالإبل)، كذا في «عمدة القاري»، وقدمنا عنه أن اسم المقتول يسار مولى رسول الله عليه السلام، وأما الآتي بالخبر؛ فقال: لم يُعلَم اسمه، والذي يظهر أنه راعي إبل الصدقة، وذكر مسلم من رواية عبد العزيز بن صهيب عن أنس: (ثم مالوا على الرعاة، فقتلوهم بالجمع)، وكذا ذكره ابن حبَّان، والطبري كما مر قريبًا، فالظاهر: أن إبل الصدقة كان لها رعاة، فقتلوا بعضهم مع راعي اللقاح، فاقتصر بعض الرواة على ذكر راعي النبيِّ الأعظم عليه السلام؛ لأنَّه أشهر وأشرف، ولم يذكروا بقية الرعاة المقتولين، وزعم ابن حجر أن من عبر بالجمع؛ فتسمح وهو الأرجح؛ لأنَّ أصحاب المغازي لم يذكر أحد منهم أنهم قتلوا غير يسار، انتهى.
قلت: وهذا فاسد، فإن الروايات التي رواها مسلم، وابن حبان، والطبري، وغيرهم بالجمع، وهو يقتضي أن المقتولين جمع لا فرد.
وقوله: (إن من عبر...) إلخ؛ فاسد؛ لأنَّ في مثل هذا لا يقال: إنه تسمح، وأي دليل على ذلك؟ وما هو إلا خبط وتخمين.
وقوله: (لأن أصحاب المغازي...) إلخ؛ مردود وفاسد، فإن عدم ذكرهم غيره لا يستلزم عدم وجوده مطلقًا، بل إنَّما ذكروا يسارًا؛ لشهرته، وتركوا بقية الرعاة؛ لعدم شهرتهم، كما يقال: جاء الأمير، والحال أنه جاء مع حَشَمِه وخَدَمِه.
وقوله: (الأرجح...) إلخ؛ هذا فاسد، فكيف يكون أرجح؟ وأي دليل على أرجحيته؟ ويدل على فساده ما ذكره مسلم، وابن حبان، والطبري من التعبير بالجمع، وهو يقتضي أن المقتولين جمع فذكروا يسارًا؛ لشهرته وشرفه، وتركوا غيره؛ لعدمها؛ فليحفظ.
(فبعث)؛ أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، ومفعوله محذوف؛ أي: الطلب، كما جاء في رواية الأوزاعي (في آثارهم)؛ جمع إِثْر؛ بكسر الهمزة، وسكون المثلثة، يقال: خرجت في إثره؛ إذا خرجت وراءه، وفي حديث سَلَمَة ابن الأكوع كما ذكره ابن إسحاق وغيره: (فبعث في آثارهم خيلًا من المسلمين أميرهم كُرْز بن جابر الفهري)، وكُرْز؛ بضمِّ الكاف، وسكون الراء، بعدها زاي معجمة، وعند ابن عُقْبَة: (أنه سعد بن زيد)، وعند «النسائي» : (فبعث في طلبهم قافة)؛ وهو جمع قائف، وعند «مسلم» : (أنهم شبان من الأنصار قريب من عشرين رجلًا، وبعث معهم قائفًا يَقْتَصُّ آثارهم، ولم يُعْلَم اسم هذا القائف، ولا اسم واحد من العشرين، لكن ذكر الواقدي: أن السرية كانت عشرين، ولم يقل من الأنصار، وسمَّى منهم جماعة من المهاجرين منهم؛ يزيد بن الخطيب وسَلَمَة ابن الأكوع الأسلميان، وجندب ورافع ابنا مكيث الجهنيان، وأبو ذر وأبو رهم الغفاريان، وبلال بن الحارث وعبد الله بن عمرو بن عوف المزنيان، وغيرهم، كذا في «عمدة القاري».
وزعم ابن حجر أن الواقدي لا يحتج به إذا انفرد، فكيف إذا خالف؟
ورده في «عمدة القاري» حيث قال: (قلت: ما للواقدي وهو إمام وثقه جماعة منهم أحمد؟ والعجب من هذا القائل أنه يقع فيه وهو أحد مشايخ إمامه!) انتهى.
واعترضه العجلوني: بأن الأكثر على تجريحه وهو مقدم على التعديل، وكونه أحد مشايخ إمامه لا يلزم أن يروي عنه، انتهى.
قلت: وهو فاسد، فإن الجمهور على أنه عدل ثقة مقبول، ولا سيما قد وثقه حافظ السنة الإمام أحمد ابن حنبل، والتعديل مقدم على الجَرْح لا كما زعم أنه بالعكس، فإن العدالة أصل مثبت، ونافيها مطالب بالدليل ولم يوجد.
وقوله: (وكونه...) إلخ؛ فاسد أيضًا، فإنه إذا كان من مشايخ إمامه؛ يلزمه التأدب معه، وهو يسلتزم أن يكون قد روى عنه، فإن الشيخ لا يسمَّى شيخًا إلا إذا أخذ عنه وروى عنه، وهذا كذلك، فهذا الاعتراض مردود عليه، وما هو إلا خبط وخلط؛ فافهم ذلك ولا تغترَّ بهذه العصبية الزائدة من العجلوني، فإنه قد أتى بها من عجلون؛ فليحفظ.
(فلما ارتفع النهار) فيه حذف قبل (الفاء)، وتسمَّى الفصيحة؛ تقديره: فأدركوا في ذلك اليوم فأخذوا فلما ارتفع النهار؛ (جيء بهم)؛ أي: النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم وهم أسارى، فأمر بمعاقبتهم على حسب جنايتهم، (فقطع أيديهم وأرجلهم) أي: من خلاف؛ كما في آية (المائدة) المنزلة في القضية، كما رواه ابنا جرير وحاتم، وغيرهما إسناد الفعل فيه إلى النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم مجاز، والدليل عليه ما جاء في رواية أخرى: (فأمر بقطع أيديهم وأرجلهم) جمع يد، وجمع رجل، فإما أن يُراد بها أقل الجمع الذي هو اثنان عن بعض العلماء؛ لأنَّ لكل منهم يدين ورجلين، وإما أن يراد التوسيع عليهم بأن يقطع من كل واحد (١) منهم يد واحدة، ورجل واحدة، والجمع في مقابلة الجمع يفيد التوزيع، كذا في «عمدة القاري»، وعند المؤلف من رواية الأوزاعي: (ولم يحسمهم)؛
(١) في الأصل: (واحدة)، ولعل المثبت هو الصواب.