علم أبو هريرة أنَّه جنب مع أن الذكر لا يطلع عليه أحد؛ لإعلامه عليه السلام له بذلك؛ لما في رواية ابن ماجه: (قام إلى الصَّلاة) وفي آخره: «قال: إنِّي خرجت إليكم جنبًا، وإنِّي نسيت حتى قمت إلى الصَّلاة»، ومثله في رواية الدارقطني، إذا علمت هذا؛ تعلم فساد ما زعمه العجلوني حيث قال: «وفهم أبو هريرة لذلك بالقرائن أو إعلامه له بَعد» انتهى، فإن كلامه يفيد الظن والاحتمال لا القطع؛ فليحفظ.
(فقال)؛ أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ أي: بلفظه حقيقة أو إشارته (لنا) معاشر الصحابة، وفي رواية الإسماعيلي: «فأشار بيده» (مكانكم)؛ بالنصب على الإغراء؛ أي: الزموا مكانكم، وجوز البرماوي أن يكون اسم فعل، والأول أظهر.
قال في «عمدة القاري» : إذا ثبت أنه تكلم بقوله: «مكانكم»؛ فالإشارة لماذا؟
وأجيب: بأنه يحتمل أنه جمع بين الكلام والإشارة، أو يكون الراوي روى أحدهما بالمعنى، انتهى.
واعترضه العجلوني فزعم أنه لو قال: إن ثبت؛ لكان مناسبًا، فإنه يحتمل أن يكون قول: «مكانكم» بالإشارة لا باللفظ، وجوابه بقوله: يحتمل... إلخ ليس فيه بيان حكمة الإشارة، ويمكن الجمع بينهما.
قلت: واعتراضه مردود عليه، فإن قوله: لو قال... إلخ؛ ممنوع بل تعبيره بـ (إذا ثبت) هو المناسب؛ لأنَّ (إذا) تدل على تحقُّق مدخولها غالبًا، ومنه قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: ٦]، و (إن) تدل على أنَّ مدخولها مشكوك فيه غالبًا، ومنه قوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا} [المائدة: ٦]، وههنا القول محقق؛ لأنَّه ثابت في الصحيح محقق الوجود والوقوع بخلاف (إن)، فإنها ليست كذلك، ألا ترى أنَّ الصَّلاة محققة الوجود، وأنَّ الجنابة قد لا توجد أصلًا؛ فليحفظ، فإنه قد خفي هذا على هذا القائل، كما لا يخفى.
وقوله: فإنه يحتمل... إلخ ممنوع، وهذا الاحتمال باطل؛ لأنَّ قوله: (فقال: مكانكم) يدل على أنَّه باللفظ قطعًا لا بالإشارة، وهو ظاهر، كما لا يخفى.
وقوله: وجوابه... إلخ ممنوع، فإن قوله: (إنَّه جمع بين الكلام والإشارة) يفيد أنه عليه السلام لما قام في مكانه وذكر أنه جنب؛ التفت وقال لهم: (مكانكم)؛ باللفظ، ثم لما مشى عن مكانه؛ أشار لباقي القوم الذين لم يسمعوا اللفظ، فأشار إليهم، فهذا الجمع بين الكلام والإشارة هو بيان حكمة الإشارة، ولم يجنح إلى هذا (١) العجلوني، فقال: ويمكن الجمع بينهما، فرجع إلى ما قاله إمام الشارحين، والمعترض حقه أن يأتي بجواب سالم عن ذلك؛ فافهم.
وزعم ابن حجر أنَّ فيه إطلاق القول على الفعل، بل القول على حاله، ورواية الإسماعيلي لا تستلزم ذلك؛ لاحتمال الجمع بين الكلام والإشارة، انتهى.
ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: إذا كان القول على بابه؛ فيكون واقعًا في الصَّلاة، كما ثبت في الصحيح، انتهى.
قلت: قد علمت ما قدمناه؛ فافهم.
(ثم رجع)؛ أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم إلى حجرته الشريفة، (فاغتسل)؛ أي: من الجنابة، (ثم خرج إلينا) معشر الصحابة رضي الله عنهم، والظاهر أن التراخي هنا وفي قوله: (ثم رجع) مرادٌ على بابه، واستظهر العجلوني أنه مراد هنا بخلافه في (ثم رجع).
قلت: وهو غير ظاهر؛ لأنَّه لا بد من وجود مهلة بين قوله: «مكانكم» ورجوعه ولو وقفة خفيفة؛ لأجل إعلامهم بأنه يعود إلى الصَّلاة حتى لا يذهب منهم أحد، فالتراخي في كلٍّ منهما مراد؛ فافهم.
(ورأسه يقطر)؛ أي: من ماء الغُسل، ونسبة القطر إلى الرأس مجاز من قبيل ذكر المحل وإردة الحال، والجملة اسمية وقعت حالًا على أصلها بالواو كذا قاله في «عمدة القاري».
وزعم العجلوني أنَّ نسبة القطر إلى الرأس من المجاورة؛ لأنَّ الذي يقطر الماء) انتهى.
قلت: وهذا ليس بمجاورة؛ لأنَّها قرب الشيء من الشيء، وهنا استعمال الماء في الرأس وهو ليس من المجاورة، بل من إطلاق المحل وإرادة الحال، فهو مجاز؛ فافهم، والله أعلم.
(فكبر)؛ أي: لصلاة الفجر، قال صاحب «عمدة القاري» : (فإن قلت: هل اقتصر على الإقامة الأولى أو إنشاء إقامة ثانية؟ قلت: لم يصح فيه نقل، ولو فعله؛ لنقل) انتهى.
قلت: أفاد كلامه أنه اقتصر على الإقامة الأولى وهو الظاهر، ويدل له أن (الفاء) للتعقيب، ولأن تكرار الإقامة غير مشروع وهو حجة لمذهب الإمام الأعظم والجمهور في جواز الفصل بينهما، سواء كان لمصلحة الصَّلاة أم لا، طال أم لا، ومثله الفعل بشرط كونه من مصالحها.
قال في «الفتاوى القنية» : (ولو صلى السنة بعد الإقامة أو حضر الإمام بعدها بساعة؛ لا يعيدها)، ومثله في «الفتاوى البزازية» كما في «منح الغفار» لما رواه المؤلف عن أنس في (الصَّلاة) قال: (أقيمت الصَّلاة، فعرض للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم رجل فحبسه بعد ما أقيمت الصَّلاة)، زاد هشام في روايته: (حتى نعس بعض القوم)، فهذا يدل على أنَّ الفصل بينهما ولو طويلًا؛ جائز، خلافًا لمن قيده بالقصير، فإنه لا دليل يدل عليه، وحديث الباب يرد عليه؛ لأنَّ الاشتغال بالغُسل من الفصل الطويل، كما لا يخفى.
قال الإمام الشُّمنِّي: (وفي هذا رد على من قال: إذا قال المؤذن: «قد قامت الصَّلاة»؛ وجب على الإمام تكبير الإحرام)؛ يعني: أنَّه لا يجوز الفصل بينهما، وتأولوا الحديث بأن معناه: كبر بعد رعاية وظائف الصَّلاة؛ كالإقامة، أو يؤول أقيمت أولًا بغير الإقامة الاصطلاحية.
قلت: وهذا كله خروج عن الظاهر، ومكابرة، فأي دليل دل على أنه أتى بها ثانيًا؟ وأي دليل على أن الأولى كانت بغير الاصطلاحية؟ بل الدليل الظاهر على أنه لم يأت بها ثانيًا، ولو أتى بها؛ لنقل عنه، فعدم النقل عنه دليل على عدم الإتيان بها؛ لأنَّ الأصل بقاء ما كان على ما كان، والتأويل الثاني أبعد من الأول؛ لأنَّ الإقامة لغة واصطلاحًا وعرفًا اسم لهذه الألفاظ المشهورة، فكيف تذكر ويراد غيرها؟! وما هو إلا مكابرة؛ لأنَّها لم تأت بمعنى غير هذا، كما لا يخفى على أولي الألباب؛ فافهم.
وفي قوله: (فلما قام في مصلاه...) إلخ دليل على أنه لم يدخل في الصَّلاة، وأصرح منه ما في رواية المؤلف (قبل أن يكبر).
قال في «عمدة القاري» : (فإن قلت: في رواية ابن ماجه: (قام إلى الصَّلاة وكبَّر، ثم أشار إليهم فمكثوا، ثم انطلق فاغتسل، وكان رأسه يقطر ماء فصلى بهم، فلما انصرف؛ قال: «إني خرجت إليكم جنبًا وإني نسيت حتى قمت إلى الصَّلاة»).
وفي رواية للدارقطني من حديث أنس: (دخل في الصَّلاة فكبَّر وكبَّرنا معه، ثم أشار إليهم فمكثوا، ثم انطلق فاغتسل وكان رأسه يقطر ماءً فصلى بهم، فلما انصرف؛ قال: «إني خرجت إليكم جنبًا وإني نسيت حتى قمت إلى الصَّلاة»)، وفي رواية للدارقطني من حديث أنس: (دخل في الصَّلاة فكبر وكبرنا معه، ثم أشار إلى القوم كما أنتم).
وفي رواية لأحمد من حديث عليٍّ: (كان قائمًا فصلى بهم إذا انصرف).
وفي رواية لأبي ذر من حديث أبي بكرة: (دخل في صلاة الفجر فأومأ بيده: أن مكانكم).
وفي أخرى: (ثم جاء رأسه يقطر فصلى بهم).
وفي أخرى له مرسلة: (فكبَّر، ثم أومأ إلى القوم أن اجلسوا).
وفي مرسل ابن سيرين، وعطاء، والربيع، عن أنس: (كبر، ثم أومأ إلى القوم: أن اجلسوا).
قلت: هذا كلام لا يقاوم الذي في «الصحيح»، وأيضًا في حديث أبي هريرة هذا: (ثم رجع فاغتسل، ثم خرج إلينا ورأسه يقطر فكبر)، فلو كان كبر أولًا؛ لما كان يكبر ثانيًا على أنه اختلف في الجمع بين هذه الروايات، فقيل: أريد بقوله: (كبر)؛ أراد أن يكبر عملًا برواية «الصحيح» : (قبل أن يكبر).
وفي رواية أخرى للبخاري: (فانتظرنا تكبيره)، وقيل: إنهما قضيتان أبداه القرطبي احتمالًا، واستظهره النووي، وأبداه ابن حبان في «صحيحه»، فقال: (بعد أن أخرج الروايتين من حديث أبي هريرة: هذان فعلان في
(١) في الأصل: (هذا إلى)، ولعل المثبت هو الصواب.