للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

موضعين متباينين، خرج عليه السلام مرة فكبر، ثم ذكر أنه جنب، فانصرف فاغتسل، ثم جاء فاستأنف بقيام الصَّلاة، وجاء مرة أخرى، فلما وقف ليكبر؛ ذكر أنه جنب فانصرف فاغتسل، وجاء مرة أخرى، فلما وقف ليكبر؛ ذكر أنه جنب قبل أن يكبر، فذهب فاغتسل، ثم رجع فأقام بهم الصَّلاة من غير أن يكون بين الخبرين تضاد ولا تهاتر، فإنَّ قول أبي بكرة: (فصلى بهم)؛ أراد بذلك أنَّه بدأ بتكبير مُحْدَثٍ لا أنَّه رجع فبنى على صلاته، إذ محال أن يذهب عليه السلام ليغتسل ويبقي الناس كلهم قيامًا على حالهم من غير إمام إلى أن يرجع) انتهى.

قال في «عمدة القاري» : (وروي عند بعض أصحابنا: أن انتظارهم له هذا الزمن الطويل بعد أن كبروا من قبيل العمل اليسير، فيجوز مثله، فإن قلت: كيف قلت: كبروا؟ قلت: لأنَّ العادة جارية بأن تكبير المأمومين يقع عقب تكبير إمامهم، ولا يؤخر ذلك إلا القليل من أهل الوسوسة، فإن قلت: إذا ثبت أنه عليه السلام لم يكبر، فكيف كبروا؟ وأيضًا فكيف أشار إليهم ولم يتكلموا، ولم انتظروه قيامًا؟ قلت: أمَّا تكبيرهم؛ ففي رواية: (تكبيره عليه السلام)، وأمَّا قولك: ولم يتكلم؛ فيرده قوله: «مكانكم») انتهى.

قلت: وقوله: (من أهل الوسوسة)؛ فإنا قد شاهدنا كثيرًا من المتعصبين من الشافعية يجيء أحدهم إلى خلف إمامه فيكبر الإمام ويجتهد المأموم بالنية، ثم يقول: الله أكبر، ثم يسلم، ويتعوذ من الشيطان، ثم يكبر، وهكذا إلى أن يفرغ الإمام من صلاته، فيجيء إلى إمام آخر، ويفعل مثل الأول، ثم يفرغ الإمام من صلاته، وهو لم يشرع معه ثم يذهب ويصلي إمامًا، وما هذا إلا من شدة اتصال الشيطان به، وقالوا: الوسوسة إما من خلل في العقل أو في الدين، وعلى كلٍّ؛ فهي بدعة منكرة، وهذا الفعل مذموم شرعًا، ففي زعمه أنه من الصالحين، والحال أنه من جند إبليس رئيس الشياطين، والله تعالى أعلم.

(فصلينا) معشر الصحابة (معه)؛ أي: مع النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم صلاة الفجر، كما في حديث أبي بكرة المصرح به (١)، ففي الحديث طلب تعديل الصفوف وهو مستحب بالإجماع، وشذ ابن حزم، فزعم أنه فرض على المأمومين، الأول فالأول والتراص والمحاذاة بالمناكب والأرجل.

قال في «عمدة القاري» : فإن قلت: في رواية: «أقيمت الصَّلاة فقمنا فعدلنا الصفوف قبل أن يخرج فكيف هذا»، وقد جاء: «إذا أقيمت الصَّلاة؛ فلا تقوموا حتى تروني»، قلت: لعله كان مرة أو مرتين؛ لبيان الجواز، أو لعذر، أو لعل قوله: «فلا تقوموا حتى تروني» بعد ذلك، والحكمة في هذا النهي؛ لئلا يطول عليهم القيام، ولأنَّه قد يعرض له عارض فيتأخر بسببه.

وفي الحديث: وهو قول الإمام الأعظم وأصحابه رضي الله عنهم، وهو ظاهر فإن في رواية ابن ماجه من حديث أبي هريرة، وفي رواية الدارقطني من حديث أنس، وفي رواية أبي بكرة: (دخل في صلاة فكبر وكبرنا معه، ثم أشار إليهم، فمكثوا، ثم انطلق فاغتسل وكان رأسه يقطر ماء فصلى بهم، فلما انصرف)، فقوله: (فصلى بهم)؛ معناه: أتم صلاته بالتكبير الأول، وهو ظاهر الحديث؛ لأنَّه لو كان كبر ثانيًا؛ لصرح به، فعدم تصريحه به دليل على عدم وجوده؛ لأنَّ الأصل بقاء ما كان على ما كان، ولا مانع من بقاء الناس قيامًا على حالهم من غير إمام؛ لأنَّ هذا الانتظار عفوٌ؛ لأنَّه من قبيل العمل اليسير، ويدل لهذا قوله في الروايات: (ثم أشار إليهم فمكثوا)؛ معناه: وقفوا قيامًا على حالهم الأول، أو مكثوا قعودًا، ويدل له ما في بعض الروايات السابقة: (فأومأ إليهم أن اجلسوا)، والحكمة لهذه الإشارة عدم وقوع مُفسِد منهم للصلاة من تحوُّلٍ عن القبلة أو تنحنح أو غيرهما، فرجع عليه السلام وبنى على صلاته وهو ظاهر، وبما قررناه ظهر فساد ما قدمناه عن ابن حبان؛ فافهم والله أعلم.

وفي الحديث: ما استدل به المؤلف على الجنب إذا دخل في المسجد ناسيًا فذكر أنه جنب؛ يخرج منه، ولا يتيمم، فلذلك ذكر في الترجمة قوله: (يخرج كما هو ولا يتيمم).

وقال ابن بطال: (من التابعين من يقول: إنَّ الجنب إذا نسي فدخل المسجد، فإنه يتيمم ويخرج، قال: والحديث يردُّ عليهم).

قال في «عمدة القاري» : (قلت: من الذين ذهبوا إلى التيمم الإمام الأعظم، فإنه قال: (الجنب المسافر يمر على مسجد فيه عين ماء، فإنه يتيمم، ويدخل المسجد فيستسقي، ثم يُخرج الماء من المسجد)، وبه قال إسحاق، والنووي، وفي «نوادر ابن أبي زيد» : (من نام في المسجد، ثم احتلم؛ ينبغي أن يتيمم لخروجه)، وقال ابن بطال: (والحديث يدل على خلافه؛ لأنَّه لما لم يلزمه التيمم للخروج كذلك من اضطر إلى المرور فيه جنبًا؛ لا يحتاج إلى التيمم).

قلت: دلالة الحديث ظاهرة مما تقدم قريبًا.

وقوله: (لأنَّه لما لم...) إلخ هذا قياس مع الفارق؛ لأنَّه إنَّما لم يلزمه التيمم للخروج؛ لأنَّ الواجب عليه الخروج فورًا عند ذكره أنه جنب، فلو ألزمناه بالتيمم؛ يلزمه المكث ضرورة، وهو ممنوع منه، والنسيان قد رفع عنه الإثم فلا يلزمه التيمم، وأمَّا من كان خارج المسجد وهو جنب؛ فإنه لا ضرورة له لدخوله إلا أن يكون جنبًا مسافرًا، وهو متمكن من التيمم؛ حيث إنه خارج المسجد وبعيد عن الماء فلما علم بوجود الماء في المسجد؛ يلزمه التيمم لدخوله؛ لأنَّه لا ضرورة تَدْعُو (٢) إلى دخوله إلا الماء لفقده في الأسفار، وهذا ظاهر من الآية، فالقياس غير صحيح، كما لا يخفى.

واختلف في المرور للجنب والحائض في المسجد، فمنعه الإمام الأعظم، والجمهور، ومالك؛ لما أخرجه أبو داود، وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيوت أصحابه شارعة في المسجد، فقال: «وجهوا هذه البيوت، فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب»، ورواه المؤلف في «تاريخه الكبير»، وأخرج الترمذي عن أبي سَعِيْد الخدري: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «يا عليُّ؛ لا يحل لأحد يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك»، وقال: حديث حسن.

وأخرج القاضي إسماعيل في «أحكام القرآن» : (أنه عليه السلام لم يكن أذن لأحد أن يمر في المسجد ولا يجلس فيه وهو جنب إلا علي؛ لأنَّ بيته كان في المسجد، وهو مرسل قوي، كما قاله الحفاظ)، ولقوله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى..}؛ الآية [النساء: ٤٣]، فقد نقل الرازي عن ابن عمر، وابن عباس: أنَّ المراد بـ {عَابِرِي سَبِيلٍ} : المسافريعدم الماء يتيمم ويصلي، والتيمم لا يرفع الجنابة، فأبيح لهم الصَّلاة تخفيفًا، فالمراد بالآية نفس الصَّلاة، وحملها على مكانها مجاز على أنا نحمله على عمومه، فنقول: لا تقربوا الصَّلاة ولا مكانها على هذه الحالة إلا أن تكونوا مسافرين، فتيمموا واقربوا ذلك فصلوا، كذا قاله صاحب «عمدة القاري».

وقد قال الزجاج في «معاني (٣) القرآن» : (إنَّ المراد بـ {عَابِرِي سَبِيلٍ} : المسافر)، وقال جماعة من العلماء: إنَّ (إلا) في الآية بمعنى: (ولا)؛ والمعنى: ولا جنبًا ولا عابري سبيل، ونظيره قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَاّ خَطَئًا} [النساء: ٩٢]، فإن معناه: ولا خطأ، كما لا يخفى، وعلم مما تقدم أن دخوله عليه السلام ودخول عليٍّ المسجد جنبًا ومكثه فيه من خواصهما، وأمَّا جوازه لأهل البيت، وكلبس الحرير لهم؛ فهو اختلاق من الشيعة وغيرهم من أهل الضلال والزيغ؛ فافهم، وقد بسطه صاحب «البحر»، والله أعلم.

وجوَّزه الشافعي من غير لبث سواء كانت له حاجة أم لا، وحمل الآية على المجاز؛ وتقديره: لا تقربوا مواضع الصَّلاة جنبًا إلا عابري سبيل، فالعبور قرينة لذلك، وقد سمي المسجد باسم الصَّلاة في قوله تعالى: {لهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ} [الحج: ٤٠]، وجوَّز أحمد جلوس الجنب في المسجد ومروره فيه إذا توضأ، واعترض الكرماني على من منعه، فزعم إذا وجدت القرينة؛ يجب القول بالمجاز، وهنا العبور قرينة مانعة عن إرادة الحقيقة، ثم الحمل على العموم ممتنع؛ إذ يلزم منه إرادة معنى الحقيقة والمجاز بإطلاق واحد، ولا يجوز ذلك عندهم) انتهى.

قلت: وهو ممنوع، ولقد أكثروا من حمل الأحكام على المجاز، وتركوا الحقيقة، فإن قوله:


(١) في الأصل: (بها)، وليس بصحيح.
(٢) في الأصل: (تدعى).
(٣) في الأصل: (معان).

<<  <   >  >>