للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

(إذا وجدت...) إلخ؛ انظر ما معناه؟ وهل هذا الوجوب شرعي أو اصطلاحي؟ فإن كان الأول؛ فغير مسلم؛ للأحاديث الصحيحة الواردة في المنع مطلقًا، وإن كان الثاني؛ فغير مسلَّم أيضًا؛ لأنَّه ليس من الأدلة الشرعية، وكيف يصار إلى المجاز مع وجود الحقيقة، على أن العبور المذكور هو مرور المسافر، كما فسره ابني عمر وعباس رضي الله عنهما.

وقوله: (ثم الحمل...) إلخ هذا ممنوع ولا يلزم ما ذكره؛ لأنَّ المراد بعموم المجاز أن تجعل الحقيقة فردًا من أفراد ذلك المجاز وهذا منه، فليس فيه أنه يلزم إرادة معنى الحقيقة والمجاز بإطلاق واحد؛ لأنا لم نرد كل واحد منهما، بل نريد المجموع وإدراج فرد الحقيقة تحت أفراد المجاز، فلا يقال: إنه مجاز، ولا إنه حقيقة، بل هو من باب عموم المجاز، كما هو مقرر في الأصول، وقد أشار إليه في «عمدة القاري» فلا عجب عليه؛ فافهم.

وفي الحديث: طهارة الماء المستعمل؛ لأنَّه خرج ورأسه يقطر، وفي رواية أخرى: (ينطف)، وهي معناها. وفيه: جواز النسيان على الأنبياء عليهم السلام في العبادات، وفي الحديث: حجة لما قاله الإمام أبو يوسف، والإمام محمَّد، ومالك: إن تكبير المأموم يقع بعد تكبير الإمام وهو قول عامة الفقهاء.

وقال ابن بطال: (إنَّه قول الإمام الأعظم)، ورده صاحب «عمدة القاري»، فقال: (هو غير صحيح؛ لأنَّ مذهب الإمام الأعظم أن المأموم يكبر مع الإمام مقارنًا، والخلاف قيل في: الوجوب، وقيل: في الأفضلية) انتهى.

قلت: والصحيح أنَّ الخلاف في الأفضلية؛ لما في «إمداد الفتاح» وغيره، ولا خلاف في الجواز على الصحيح، بل في الأولوية، انتهى.

وأشار شيخ الإسلام إلى أن المقارنة في التكبير أفضل اتفاقًا، وقال بعضهم: المختار للفتوى في التحريمة أفضلية التعقيب وتمامه في الحواشي، وأجاز الشافعي تكبير المأموم قبل إمامه؛ أي: فيما إذ أحرم منفردًا، ثم نوى الاقتداء في أثناء الصَّلاة؛ لأنَّه روى حديث أبي هريرة على ما رواه مالك عن إسماعيل بن أبي حكيم، عن عطاء بن أبي يسار: (أنه عليه السلام كبر في صلاة من الصلوات، ثم أشار إليهم بيده: أن امكثوا، فلما قدم؛ كبر)، ورُدَّ بأنَّ الشافعي لا يقول بالمرسل، ومالك الذي رواه لم يعمل به؛ لأنَّه قد صح عنده أنه لم يكبر، وذكر ابن حبيب عن مالك: أنه لما رأى هذا الحديث مخالفًا لأصل الصَّلاة؛ قال: إنه خاص بالنبيِّ عليه السلام، ولعله أمرهم بنقض إحرامهم الأول، وابتداء الإحرام بعد إحرامه الثاني، وهكذا فسره مطرف، وابن الماجشون، وغيرهما، وهو قول مالك.

وقوله: (وقد سمى المسجد باسم الصَّلاة...) إلخ ممنوع، فإن صدر الآية: {وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا} [الحج: ٤٠]، فالصوامع: صوامع الرهبان، والبِيَع: بِيَعُ النصارى، والصلوات: كنائس اليهود، وسميت بها؛ لأنَّ أصلها صلوتٌ (١) بالعبرانية، فعرِّبت، فذكرها تعالى بصيغة العبرانية؛ إلزامًا لهم، والمساجد: مساجد المسلمين.

وقوله: (يذكر...) إلخ صفة لـ {مَسَاجِدُ} خصت بها تفضيلًا على غيرها، فالمراد بالصلوات: الكنائس بدليل عطف المساجد عليها، والعطف يقتضي المغايرة، ولأنَّ ذلك لغة العبرانية، فذكرت على لغتهم، فالاستدلال غير صحيح، كما لا يخفى؛ فافهم.

وفي «عمدة القاري» : (قال الشافعي: للجنب العبور في المسجد من غير لبث، كانت له حاجة أم لا)، وروي مثله عن الحسن وابن المسيب وأحمد، وعن الشافعي: له المكث فيه مطلقًا، واعتبروه بالمشرك، وتعلقوا بما روي عنه عليه السلام: «المؤمن لا ينجس»، وروى سَعِيْد بن منصور في «سننه» عن عطاء: (رأيت رجالًا من الصحابة يجلسون في المسجد وعليهم الجنابة إذا توضؤوا للصلاة)، وحديث وفد ثقيف وإنزالهم في المسجد وأهل الصفة وغيرهم كانوا يبيتون في المسجد، وكان أحمد ابن حنبل يقول: (يجلس الجنب فيه ويمر فيه إذا توضأ) انتهى.

قلت: والأحاديث السابقة صريحة في المنع مطلقًا، سواء كان للعبور أو غيره، وسواء كان متوضئًا أو لا، فهي صريحة في العموم، واعتبارهم له بالمشرك غير صحيح؛ لأنَّه عندهم نجس حقيقي، فكيف يقَيْسونه (٢) عليه وما هو إلا قياس مع الفارق؟

وقوله: (تعلقوا...) إلخ هذا لا يساعد مدَّعاهم؛ لأنَّ معناه: لا ينجس حقيقة بدليل أنه لو حمله إنسان وصلى معه؛ تصح صلاته، بل هو نجس معنًى؛ بحيث لا يجوز له دخول المسجد، ولا الصَّلاة، ولا قراءة القرآن.

وقوله: (وروى سَعِيْد...) إلخ هذا لا يصلح دليلًا لهم؛ لأنَّه موقوف على عطاء، وهو ليس بحجة عندهم على أنه يحتاج لإثبات كونهم عليهم جنابة؛ لاحتمال أنهم غير جنبين، و (حديث وفد ثقيف...) إلخ لا يدل لمدَّعاهم؛ لاحتمال أنهم لم تصبهم جنابة أصلًا وهو ممكن، ويحتمل أن هذا كله قبل ورود النهي، فهو منسوخ بالأحاديث الصريحة في النهي مطلقًا، كما قدمنا من أنه عليه السلام لم يأذن لأحد جنب وحائض أن يدخل المسجد مطلقًا، على أنَّه يكره النوم للمقيم الطاهر في المسجد، فغير الطاهر بالأولى أنه يمنع من دخوله، كما لا يخفى؛ فافهم، والله أعلم.

واختلف العلماء متى يقوم الناس إلى الصَّلاة؟ ومتى يكبر الإمام؟ فذهب الإمام الأعظم والكوفيون: إلى أنَّ السنة أنهم يقومون في الصف إذا قال المؤذن: حي على الصَّلاة، فإذا قال: قد قامت الصَّلاة؛ كبر الإمام وهو قول سويد بن عقلة، وحمَّاد، وقَيْس بن أبي سَلَمَة، وقال الإمام زفر: (إذا قال المؤذن: قد قامت الصَّلاة؛ قاموا، وإذا قالها ثانيًا؛ افتتحوا)، وكان أنس بن مالك يفعل ذلك، وقال مالك: (يشرع الإمام في الصَّلاة بعد فراغ المؤذن من الإقامة، وبداية استواء الصف)، وعندنا: يشرع الإمام عند التلفظ بقوله: قد قامت الصَّلاة، وذهب الشافعي: أنه لا يقوم أحد حتى يفرغ المؤذن من الإقامة، وبه قال أحمد، وتمامه في «عمدة القاري»، والله أعلم.

(تابعه) أي: تابع عثمان بن عمر المتقدم (عبد الأعلى)؛ هو ابن عبد الأعلى السامي-بالسين المهملة، والميم-البصري، (عن مَعمَر)؛ بفتح الميم؛ هو ابن راشد، (عن الزُّهري)؛ هو محمَّد بن مسلم ابن شهاب، وهذه متابعة ناقصة، وهو تعليق من المؤلف، وهو موصول عند أحمد، عن عبد الأعلى، ووقع عند مسلم أن عثمان أيضًا تابعه عبد الله بن وهب متابعة تامة؛ فافهم.

(ورواه) أي: روى هذا الحديث عبد الرحمن (الأوزاعي، عن) محمَّد بن مسلم ابن شهاب (الزُّهري) وروايته موصولة عند المؤلف في أوائل أبواب (الإمامة) كما سيأتي، فهو تعليق أيضًا، وزعم ابن حجر فقال: (ظن بعضهم أن السبب في التفرقة بين قوله: (تابعه) وبين قوله: (ورواه) كون المتابعة وقعت بلفظه، والرواية بمعناه، وليس كما ظن، بل هو من التفنن في العبارة) انتهى.

واعترضه صاحب «عمدة القاري» فقال: قلت: أراد بقوله: (ظن بعضهم) : الكرماني، فإنه قال في «شرحه» : فإن قلت: لم قال أولًا: (تابعه)، وثانيًا: (رواه)؟ قلت: لم يقل: وتابعه الأزواعي، إمَّا لأنَّه لم ينقل لفظ الحديث بعينه،


(١) في الأصل: (صلوتًا)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٢) في الأصل: (يقيسوه)، وليس بصحيح.

<<  <   >  >>