للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

عنده على خلاف القياس، أو باعتبار القبيلة، كذا قرره صاحب «عمدة القاري»، ثم قال: (وبنو إسرائيل) اسم يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله عليهم، وسمي به؛ لأنَّه سافر إلى خاله لأمر تقدم ذكره، وكان خاله في حران، وكان يسري بالليل، ويكمن بالنهار، وكان بنو يعقوب اثني عشر رجلًا؛ وهم: روبيل، وهوذا، وشمعون، ولاوي، وداني، ونقالي، وذبولون، وذاد، وبشاخرة، وأشيرة، ويوسف، وبنيامين، وهم الذين سماهم الله تعالى الأسباط، وسموا بذلك؛ لأنَّ كل واحد منهم قبيلة، والسبط في كلام العرب: الشجرة الملتفة الكثيرة الأغصان، والأسباط من بني إسرائيل؛ كالشعوب من العجم والقبائل من العرب) انتهى.

(يغتسلون عُراةً)؛ بضمِّ العين المهملة، منصوب على الحال، جمع عارٍ؛ كقضاة جمع قاضٍ؛ أي: متجردين عن الثياب، وعن المئزر (ينظر بعضهم إلى بعض) : جملة فعلية وقعت حالًا من (الواو) في (يغتسلون) بعد حال مترادفة أو متداخلة، وهذا يدل على أن كشف العورة كان جائزًا في شرعهم، ويدل عليه: أنهم كانوا يغتسلون عراة وموسى عليه [السلام] يراهم ولا ينكر عليهم ولو كان حرامًا؛ لأنكره عليهم، ويوضحه ما قاله الفقهاء من أن حرمة كشف العورة من خصائص هذه الأمة، واغتسال موسى منفردًا إنَّما كان من باب الحياء والأدب لا أنه واجب عليه، ويحتمل أنه كان عليه مئزر رقيق فظهر ما تحته لمَّا ابتل بالماء، فرأوا أنه أحسن الخلق، فزال عنهم ما كان في نفوسهم.

وزعم ابن بطال أنَّ بني إسرائيل كانت تفعل هذا؛ معاندة للشرع، ومخالفة لنبيهم عليه السلام.

قلت: وارتضاه القرطبي، وتبعهما القسطلاني والعجلوني، ولا يخفى أن هذا مخالف ومصادم للحديث؛ لأنَّ موسى عليه السلام كان يراهم متجردين عن الثياب حال الاغتسال، ولا ينكر عليهم، والأمر المحرَّم في الشرع لا يمكن سكوت النبيِّ عليه السلام عنه؛ لأنَّه بعث؛ لبيان الأحكام والشريعة، فكيف لا ينكر عليهم وهو حرام، هذا ممنوع قطعًا، على أنه نص الفقهاء على أن كشف العورة حرام من خصائص هذه الأمة؛ يعني: فيكون غير حرام عند بني إسرائيل، كما هو صريح نص الحديث، غاية الأمر: أنهم إنَّما كانوا يخالفون موسى في عدم الغسل مفردًا ونسبوه إلى الأدر؛ لاختفائه عنهم في حال الاغتسال وتستره حياءً وأدبًا من ربه عز وجل، ولعدم موافقته لهم من حيث إنه رسول الله عليه السلام، فلا ينبغي له أن يتداخل معهم كل التداخل؛ لأنَّ كثرة المداخلة تذهب البهاء والرئاسة، فربما يقع منه شيء في حقه، فيدعو عليهم، ألا ترى أن الأمير إذا دخل الحمام يدخل وحده وأتباعه كلهم ينتظرونه (١)، فالرسول من باب أولى، كما لا يخفى؛ فافهم.

(وكان موسى) زاد الأَصيلي: (صلَّى الله عليه وسلَّم)، وفي نسخة: (عليه السلام)، وهو من ذرية لاوي، فهو موسى بن عمران بن فاهت بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله عليهم وسلامه (يغتسل) أي: من الجنابة (وحده)؛ أي: منفردًا، منصوب على الحال إما استحياء، أو أدبًا، أو تنزهًا؛ لأنَّ التجرد ليس بحرام في شرعه، كما قدمنا.

قال في «عمدة القاري» : (ومطابقة الحديث للترجمة في اغتسال موسى عليه السلام عريانًا وحده خاليًا عن الناس، ولكن هذا مبني على أن شرع من قبلنا من الأنبياء عليهم السلام هل يلزمنا أم لا؟ وفيه خلاف، والأصح أنه يلزمنا ما لم يقض الله علينا بالإنكار) انتهى.

قلت: وهو مذهب الأئمَّة الحنفية، وتبعهم الشافعية، وزعم ابن حجر (أن الذي يظهر أن وجه الدلالة من الحديث أن النبيَّ عليه السلام قصَّ قِصتي موسى وأيُّوب عليهما السلام ولم يتعقب شيئًا منهما، فدل على موافقتهما لشرعنا؛ إذ لو كان فيهما شيء غير موافق؛ لبيَّنه، فعلى هذا: يجمع بين الحديثين بحمل حديث بهز على الأفضل، وإليه أشار في الترجمة) انتهى؛ أي: وهذا على التحريم.

قلت: كلامه غير صحيح، وقد أخذ كلامه من ابن بطال وهو موافق لمسماه، وهذا الظاهر فاسد غير ظاهر؛ لأنَّه لا يلزم من ذكر القصتين وعدم تعقبهما أن يكون موافقًا لشرعنا؛ لأنَّه عليه السلام حين قصهما كان في معرض بيان ما وقع للرسل قبله من غير ملاحظة الحكم، قال تعالى: {كَذَلِكَ (٢) نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ (٣)} [طه: ٩٩]، ولهذا سكت عليه عن البيان وقتئذٍ، وإنما ثبت حرمة كشف العورة في الصَّلاة أو للناس بدليل آخر، فإن كان مراد هذا القائل أنه ثبت بهذه القصة؛ فهو غير صحيح؛ لأنَّها لا تدل على الحرمة بل على الإباحة، كما هي في شرع موسى، ويدل لهذا أنه عليه السلام ذكر قصة موسى مع الخضر في قتل الغلام، وخرق السفينة، وبناء الجدار، وسكت عليها، والحال أنه غير موافق لشرعنا، فلو كان سكوته في القصص عن البيان يدل على الموافقة؛ لكان فعل الخضر شرع لنا وهو ممنوع، لا يسع أحدًا القول به، كما لا يخفى.

وقوله: (فهذا يجمع...) إلخ غير صحيح، فإن حديث بهز وهذا الحديث كل منهما ظاهر في الندب ومطابق للترجمة فهو الأفضل، وإنما حاول بكلامه ترويجًا لما ذهب إليه بعض الشافعية من الحرمة، ولا دليل يدل عليها، كما قدمناه، على أنه صرح هو أن المشهور عند متقدمي الشافعية الكراهة؛ يعني: أن الأحاديث الواردة في هذا الباب محمولة على الندب كما حمله عامة الفقهاء، لكن اعترضه العجلوني فزعم أنه يجب سترها مطلقًا في الصَّلاة وفي غيرها مع الخلوة أو لا، ولا نعلم قولًا بالكراهة فقط) انتهى.

لكن قال الكرماني: (كشف العورة في الخلوة إن كان لحاجة؛ جاز، وإن لغيرها؛ ففيه خلاف في كراهته وتحريمه، والأصح أنه حرام) انتهى.

فهذا يدل على أن عندهم في ذلك خلافًا، وقد خبطوا في مذهبهم، فلا يدرون الحكم كما رأيت، وقدمنا ما فيه أيضًا نقلًا عن إمام الشارحين؛ فليحفظ.

(فقالوا) أي: بنو إسرائيل: (والله) قسم (ما يمنع موسى أن يغتسل معنا) عريانًا، ننظر إليه وينظر إلينا (إلا أنه آدر) استثناء مفرغ، والمستثنى منه مقدر، وهو الأمر من الأمور كما في «عمدة القاري»، فـ (أن) وما بعدها فاعل (يمنع)، و (أن يغتسل) على تقدير من متعلق بـ (يمنع)، وهذا دليل ظاهر على أن شرعهم كان إباحة التعرِّي في الاغتسال وعدم حرمة النظر إلى العورة، وهو يرد على من زعم أن شرعهم كشرعنا؛ فافهم.

و (آدر)؛ بمد الهمزة، وفتح الدال المهملة، وتخفيف الراء، ممنوع من الصرف، قال صاحب «عمدة القاري» : (زعم ثعلب في الفصيح أنه كآدم).

وقال في «المنتخب» : (الأدرة مثل فعلة؛ فتقٌ يكون في إحدى الخصيتين)، وقال علي بن حمزة: (يقال: أُدْره وأَدْره، وأد؛ بالضم، والفتح، وإسكان الدال، وبالفتح، والتحريك)، وفي «المخصص» لابن سيده: (الأدرة: الخصية العظيمة، آدر الرجل إدراء، وقيل: الآدر الذي ينفتق صفاقه فيقع قصبه في صفته، ولا ينفتق إلا من جانبه الأيسر، وقد تأدر الرجل من داء يصيبه والشرج ضده، ولا يقال: امرأة آدر، إما لأنَّه غير مسموع، وإما أن يكون لاختلاف الخِلقة، والاسم الأدرة)، وفي «الجامع» : (الأدرة، والأدر مصدران واسم النفخة الأدرة)، وفي «الصحاح» : (الأدرة نفخة في الخصية، يقال: رجل أدر بيِّن الأدرة)، وفي «الجمهرة» : (هو العظيم الخصيتين) انتهى كلامه رحمه الله ورضي عنه، فالأدرة مختصة بالرجال.


(١) في الأصل: (ينتظروه)، وليس بصحيح.
(٢) في الأصل: (وكذلك)، والمثبت موافق للتلاوة.
(٣) في الأصل: (سلف)، وهو تحريف.

<<  <   >  >>