للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

(فذهب)؛ أي: سيدنا موسى عليه السلام (مرة) أي: في يوم من الأيام (يغتسل)؛ أي: من الجنابة جملة محلها النصب؛ لأنَّها وقعت حالًا وهي حال منتظرة، ويجوز أن تكون خبر (ذهب) إن جعلت من أفعال المقاربة، والأول أظهر؛ فافهم، (فوضع ثوبه على حَجَر)؛ بفتحتين، فيه حذف؛ تقديره: فخلع ثوبه فوضعه عليه، وهو الذي يحمله معه في الأسفار فيضربه فيتفجر له منه الماء، كذا في «عمدة القاري»، ثم قال: (وأخرج هذا الحديث مسلم، ولفظه: (اغتسل موسى عليه السلام عند مُوَيْه) بضمِّ الميم، وفتح الواو، وإسكان التحتية، تصغير ماء، وأصله موه، والتصغير يرد الأشياء إلى أصولها هكذا هو في بعض نسخ «مسلم»، وروى ذلك العدوي، والباجي.

وفي معظم نسخ «مسلم» (عند مَشْرُبَة)؛ بفتح الميم، وسكون الشين المعجمة، وضم الراء، وفتح الموحدة؛ وهي حفرة في أصل النخل يجمع فيه الماء؛ ليسقيها، وقال القاضي عياض: (وأظن الأول تصحيفًا) انتهى.

قلت: ولا منافاة بين رواية المؤلف ورواية مسلم؛ لإمكان الجمع بينهما بأنه وضع ثوبه على حجر عند المشربة التي فيها الماء؛ فليحفظ، فلما فرغ من غسله؛ أقبل إلى ثوبه ليأخذه كما في رواية الحافظ الطحاوي؛ (ففر) أي: فذهب (الحجر) يمشي على بطنه مسرعًا، فـ (الفاء) بمعنى (ثم)؛ فافهم (بثوبه)؛ أي: بثوب موسى عليه السلام، (فخرج)؛ أي: موسى عليه السلام، وفي رواية: (فجمح)؛ بجيم، فميم مخففة، فحاء مهملة؛ أي: أسرع وجرى أشد الجري، قال ابن سيده: (يقال: جمح الفرس بصاحبه جمحًا وجماحًا؛ ذهب يجري جريًا غالبًا، وكل شيء مضى على وجهه؛ فقد جمح)، وفي «التهذيب لأبي منصور» : (فرس جموح؛ إذا ركب رأسه، فلم يرده اللِّجام، وهذا ذمٌّ، وفرس جموح؛ أي: سريع، وهذا مدح)، كذا في «عمدة القاري»؛ فافهم (في إِثره)؛ بكسر الهمزة، وسكون المثلثة، وفي بعض الأصول بفتحهما؛ بمعنى: عقبه، وزعم العجلوني أنه بمعنى: بعده.

قلت: وهو غير صحيح؛ لأنَّ البعدية صادقة على وقوع المهلة في الزمان اليسير والكثير، بخلاف العقب، فإنه دال على عدم وقوع المهلة مطلقًا، وهو المراد هنا، كما لا يخفى.

وقال في «المنتخب» : بوجهه أَثر وأُثر وإِثر؛ يعني بتثليث الهمزة مع إسكان الثاء (١)، ورابعة بفتحها، حكاها كراع، وفي «الواعي» : (الأثر محرك؛ هو ما يؤثر الرجل بقدمه في الأرض)، وقال ابن سِيْده: (الأثر بالضم؛ أثر الجرح)؛ انتهى.

(يقول) جملة من الفعل والفاعل محلها نصب على الحال؛ أي: موسى عليه السلام: (ثوبي) مفعول لفعل محذوف؛ تقديره: ردَّ ثوبي، أو أعطني ثوبي (يا حجر) وإنما خاطبه؛ لأنَّه أجراه مجرى من يعقل؛ لكونه فر بثوبه، فانتقل عنده من حكم الجماد إلى حكم الحيوان، فناداه فلما لم يعطه؛ ضربه، وقيل: يحتمل أن يكون موسى عليه السلام أراد أن يضربه إظهارًا للمعجزة بتأثير ضربه، ويحتمل أن يكون عن وحي؛ لإظهار الإعجاز ومشي الحجر إلى بني إسرائيل بالثوب أيضًا معجزة أخرى لموسى عليه السلام، كذا قرره صاحب «عمدة القاري».

(ثوبي يا حجر)؛ بالتكرار مرتين مع إثبات حرف النداء، ووقع في «مسلم» مكررًا أيضًا، وبإسقاط حرف النداء، ولكنه مراد، كما لا يخفى، ومثله في رواية لغير الأربعة هنا، وهو مفعول لمحذوف كما سبق، ويجوز رفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف أو بالعكس وعليهما؛ فهو لاستعظام كونه يأخذ ثوبه، فعامله معاملة من لا يعلم كونه ثوبه، لعله يرده إليه (حتى) للغاية أو للتعليل لـ (فرَّ) المتقدم، أو لنحو: استمر على فراره مقدرًا إلى أن (نظرت بنو إسرائيل إلى موسى) عليه السلام وهو مكشوف العورة، ففيه: رد على من زعم أنَّ ستر العورة كان واجبًا، وفيه: إباحة النظر إلى العورة عند الضرورة من مداواة أو براءة مما نسب إليه؛ كالبرص وغيره، لكن الأول أظهر؛ لأنَّ مجرد تستر موسى لا يدل على وجوب ستر العورة لما تقدر في الأصول أن الفعل المجرد لا يدل بمجرده على الوجوب، وليس في الحديث أن موسى أمرهم بالتستُّر، ولا أنكر عليهم التكشُّف، ولو كان واجبًا؛ لأمرهم بذلك، وأما إباحة النظر إلى العورة للبراءة مما نسب إليه؛ فإنما هو من حيث يترتب على الفعل حكم؛ كفسخ النكاح، وأما قصة موسى؛ فليس فيها أمر شرعي ملزم يترتب على ذلك، فلولا إباحة النظر إلى العورة؛ لما أمكنهم موسى من ذلك، ولا خرج مارًّا على مجالسهم، وهو كذلك، وأما اغتساله خاليًا؛ فكان يأخذ في حق نفسه بالأكمل والأفضل، ويدل على الإباحة: ما وقع لنبينا عليه السلام وقت بناء الكعبة من جعل إزاره على كتفه بإشارة العباس عليه بذلك؛ ليكون أرفق به في نقل الحجارة، ولولا إباحته؛ لما فعله، لكنه ألزم نفسه بالأكمل والأفضل؛ لعلوِّ مرتبته عليه السلام، كذا قرره القسطلاني بزيادة؛ فافهم واحفظ، (فقالوا)؛ بالفاء، وفي رواية: بالواو؛ أي: بنو إسرائيل حين رأوا موسى مكشوف العورة، ورأوا عورته: (والله) قسم (ما بموسى من بأس) كلمة (من) زائدة، وهو اسم (كان) على تقدير: ما كان بموسى (٢) بأسٌ، وفي أكثر النسخ: (ما بموسى)؛ فعلى هذه: (من بأس) اسم (ما)، كذا في «عمدة القاري»، واعترضه العجلوني بأن (ما) على الصحيح لا تعمل مع تقدم الخبر، ولا داعي إلى تقدير (كان)، وجازت زيادتها؛ لتقدم وكون المجرور نكرة) انتهى.

قلت: وهو غير صحيح؛ لأنَّ قوله: (أن ما على الصحيح...) إلخ غير صحيح؛ لأنَّ هذا التصحيح لم يذكره غيره من النحويين، بل قالوا: (ما) النافية عند الحجازين كـ (ليس) إن تقدم الاسم على الخبر، ولم يُسبَق الاسم بـ (أن) الزائدة، ولا بمعمول الخبر إلا إذا كان ظرفًا أو مجرورًا ولم يسبق الخبر بـ (إلا)، وبنو تميم لا يعملونها، بل هي عندهم مهملة وهو القياس؛ لأنَّها حرف لا يختص بقبيل، بل تدخل على الأسماء والأفعال، فأصلها ألَّا تعمل قال شاعرهم:

ومهفهف الإعطاف قلت له: انتسب... فأجاب: ما قتل المحب حرام

أي: هو تميمي لا حجازي، وظاهر كلام النحاة أن الصحيح أنها مهملة؛ لتعليلهم أنه القياس، وأنها صرف غير مختص.

وقوله: (ولا داعي إلى تقدير كان...) إلخ غير صحيح، بل الداعي إلى ذلك صحة المعنى؛ لدلالتها على عدم وجود البأس فيه؛ فافهم، والبأس: الشدة؛ أي: لم يوجد بموسى من شدة من العيب؛ فليحفظ.

(وأخذ) أي: موسى عليه السلام (ثوبه) من على الحجر حين وقف في مجلس بني إسرائيل، ولبسه عليه بعد أن رآه بنو إسرائيل مكشوف العورة وتيقنوا أنه ليس به بأس من العيوب، وهذا ظاهر من صريح سياق الحديث، وقال ابن المُنيِّر: (الصحيح أن موسى لم يتعمد تمكينهم من نظر العورة، وإنما ألجأه الله تعالى إلى ذلك بآية أظهرها؛ لبراءته مما ينقص به، وكان الحجر في ذلك كالبشر يفر بثوب الرجل فيلزمه اتباعه، فيجوز ذلك للضرورة)، وقيل: لم يكن مكشوف العورة، بل نزل الماء مؤتزرًا، فلما خرج يتبع الحجر والمئزر مبتل بالماء؛ علموا عند رؤيته أنه ليس بآدر؛ لأنَّ الأدرة تبين من تحت الثوب المبلول بالماء، نقله ابن الجوزي عن الحسن بن أبي بكر النيسابوري، قال ابن حجر: (وفيه نظر ولم يذكر وجهه).

قلت: ولعل وجهه في الأول أنه لم يتعمد تمكينهم من النظر إلى العورة؛ لما غلبه من الحياء والأدب، وكأنه تعالى لما لم يوجب عليهم ستر العورة ألجأه إلى إظهارها لحكمتين؛ أحدهما: أن سترها غير واجب، وثانيهما: إظهار براءته مما نسبوه.

وقوله: (وكأن الحجر...) إلخ غير ظاهر؛ لأنَّ الاتِّباع للحجر غير لازم؛ لإمكان التستر بغيره من حشيش، أو ماء كدر، أو طين، أو غير ذلك، فليس فيه جواز ذلك للضرورة؛ لأنَّه لا ضرورة إلى ذلك مع وجود ما يستتر به من الحشيش وغيره، فالحقُّ أن موسى عليه السلام لما علم ما نسبوه إليه، ورأى الحجر قد فر بثوبه؛ بادر إلى نفي ما نسبوه إليه؛ حيث تيسر له ذلك، وإلى أخذ الثوب من الحجر، ولعل وجه النظر في الثاني أن الثوب المبتلَّ الرقيق الذي لا يحجب العورة لا يعد ساترًا لها؛ لأنَّ الستر عدم الظهور، والعورة تحت مثل هذا الثوب تظهر لمن نظر إليها فكأنه مكشوف العورة بلا ساتر، فهذا الثوب وجوده وعدمه سواء، كما لا يخفى، وقال ابن الجوزي: (إن موسى كان في خلوة كما في الحديث، فلما تبع الحجر لم يكن عنده أحد؛ فاتفق


(١) في الأصل: (الفاء)، وليس بصحيح.
(٢) زيد في الأصل: (من).

<<  <   >  >>