للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

أنه جاز على قوم فرأوه؛ لأنَّ جوانب الأنهار وإن خلت لا يؤمن وجود قوم قريب منها، فبقي الأمر أنه لا يراه أحد، فاتفق من رآه) انتهى.

قلت: وهو فاسد، فإن الحديث لا يدل على أنه كان يغتسل في خلوة؛ لأنَّ لفظ الحديث: (وكان موسى يغتسل وحده) لا يدل على أنه كان يغتسل في خلوة، بل شامل لغسله عند عين أو نهر وغير ذلك، غاية الأمر: أنه وحده ليس عنده أحد، ويؤيد ذلك ما في رواية مسلم: (أنه كان يغتسل عند مشربة)؛ وهي الحفرة في أصل النخلة يجمع فيها الماء ليسقيها، فموسى لما اغتسل عند الماء ولم يكن عنده أحد فرأى (١) ثوبه فرَّ به الحجر؛ تبعه لما قدمنا قريبًا، فمر على القوم من بني إسرائيل فرأوه؛ لأنَّ جوانب الأنهار والعيون لا تخلو من وجود أحد من السياحين، وأصحاب التنزه ولو من أصحاب النخل، فلا بد وأن يراه أحد من هؤلاء.

وقوله: (فبقي الأمر...) إلخ ممنوع، بل بقي الأمر على أنه قد رآه أحد قصدًا؛ لعدم خلوِّ أحد، كما لا يخفى؛ فليحفظ.

(فَطفِق)؛ بكسر الفاء، وفي رواية: بفتحها، قيل في بعض النسخ: (وطفق)؛ بالواو؛ أي: شرع يضرب (الحجر) فـ (الحجر) منصوب بفعل مقدر، وهو (يضرب)، وقوله: (ضربًا) مفعول مطلق له، وفي رواية الأكثرين: (فطفق)؛ بالجر بزيادة موحدة في أوله؛ ومعناه: جعل ملتزمًا بذلك يضربه ضربًا، كذا قاله صاحب «عمدة القاري»، وزعم العجلوني نقلًا عن «المصابيح» (أنه يقدر على هذه الرواية مس بالحجر لا بضرب؛ لئلا يلزم زيادة الباء في غير محلها) انتهى.

قلت: وهو غير ظاهر؛ لأنَّ الباء للمصاحبة، فيلزم على قوله أنه لم يوجد ضرب للحجر، بل مسٌّ وهو خلاف المراد؛ فالمعنى الأول هو المراد؛ يعني: جعل نفسه ملتزمًا بذلك بضرب الحجر ضربًا؛ فافهم.

و (طفق) من أفعال المقاربة وهي ثلاثة أنواع:

الأول: ما وضع للدلالة على قرب الخبر، وهي ثلاثة: كاد، وقرب، وأوشك.

الثاني: ما وضع للدلالة على رجائه، وهي ثلاثة: عسى، واخلولق، وحرى.

والثالث: ما وضع للدلالة على الشروع فيه، وهي كثيرة، ومنه: طفق.

وهذه كلها ملازمة لصيغة الماضي، إلا أربعة فاستعمل لها مضارع: وهو كاد، وأوشك، وطفق، وجعل، واستعمل مصدرًا لاثنين، وهما طفق وكاد، وحكى الأخفش: طفوقًا عمن قال: طفَق؛ بالفتح، وطفِقًا عمن قال: طفِق؛ بالكسر، وقد أوضحت المقام في شرحي على «شرح الأزهرية» للشيخ خالد الذي سميته بـ: «تاج الأُسطوانية شرح شرح الأزهرية»؛ فارجع إليه إن شئت، وقدمنا عن «عمدة القاري» أن موسى نادى (٢) الحجر، فلما لم يعطه الثوب؛ ضربه، ويحتمل أن يكون موسى أراد أن يضربه إظهارًا للمعجزة بتأثير ضربه، ويحتمل أن يكون عن وحي؛ لإظهار الإعجاز، ومشي الحجر إلى بني إسرائيل بالثوب أيضًا معجزة أخرى لموسى عليه السلام، انتهى.

(قال) وفي رواية: (فقال) (أبو هريرة) رضي الله عنه هذا إما من قول أبي هريرة؛ فيكون تعليقًا من البخاري، وإما من تتمة قول همام؛ فيكون مسندًا، كذا قاله الكرماني، وزعم ابن حجر أنه من قول همَّام، وليس بمعلق.

ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: (قلت: احتمال الأمرين ظاهر، وقطع البعض بأحد الأمرين غير مقطوع به) انتهى.

وأجاب ابن حجر في «الانتقاض» : (بأن القطع المراد به الحكم بالترجيح، ومن راجع نسخة همام من طريق البخاري عرف الرجحان المذكور) انتهى.

قلت: وهو مردود عليه، فإن القطع المراد به الحكم على أمر لا يحتمل غيره، يقال: قطع القاضي الأمر على فلان؛ يعني: حكم عليه به، وهو لا يحتمل غيره بخلاف الترجيح، فإنه يحتمل غيره واحدًا وأكثر، وهذا القائل لم يفرق بين القطع والترجيح.

وقوله: (ومن راجع...) إلخ ممنوع، فإنه ليس فيها ما يفيد الترجيح المذكور، بل فيها احتمال الأمرين، فكيف قال ابن حجر ما قال؟

والذي يظهر لي أن هذا تعليق من المؤلف، ويحتمل أنه مسند، لكن الأول أقرب؛ لأنَّ الحديث قد تم، وهذا بيان عدد الضرب؛ فليحفظ، والله أعلم، وتمامه في «إيضاح المرام»؛ فليراجع.

(والله) قسم؛ (إنه)؛ أي: الشأن أو الحجر المذكور (لنَدَبَ)؛ بفتح النون، وفتح الدال المهملة، آخره موحدة، منون؛ أي: أثر، قال أبو المعالي: (الندب: أثر الجرح إذا لم يرتفع عن الجلد، وجرح نديب؛ ذو ندب، وقد أندبته؛ أي: جعلت في جسمه ندبًا وأثرًا، والجمع أنداب وندوب)، وفي «المحكم» : (والجمع ندب، وقيل: الندب واحد، وندب ظهر ندبًا وندوبة وندوبًا، فهو ندب صارت فيه ندوب وأندب بظهره وفي ظهره عادت فيه ندوبًا)، وفي (الاشتقاق) عن الأصمعي: (هو الجرح إذا بقي منه أثر مشرف، يقال: ضربه حتى أندبه)، كذا في «عمدة القاري».

وقوله: (بالحجر) صفة (لندب)، أو متعلق به، وهو الأظهر؛ فافهم، وقال في «المصابيح» : (إن حمل على ظاهره؛ ففيه آية لموسى، وإلا؛ فيكون استعارة) انتهى.

قلت: والمراد هنا الحمل على ظاهره؛ لأنَّ المقصود إظهار آية موسى عليه السلام، وإظهار معجزاته، وكونه استعارة بعيد جدًّا، وذلك لأنَّ الحجر قد أثر فيه الضرب حقيقة، فكيف يحمل على المجاز؟ وما هو إلا دعوى بلا دليل؛ لأنَّ مع وجود الحقيقة لا يجوز المصير إلى المجاز، كما لا يخفى.

(ستةٌ)؛ بالرفع على البدلية من (ندب)؛ أي: ستة آثار، ويحتمل أنه خبر لـ (هي) مقدرة، أو منصوب على الحال من الضمير المستكن في قوله: (بالحجر)، فإنه ظرف مستقر (لندب)؛ أي: أنه لندب استقر بالحجر حال كونه ستة آثار، أو على التمييز، (أو سبعةٌ) بالشك من الراوي (ضربًا) منصوب على التمييز (بالحجر) متعلق بـ (ضربًا)، والظاهر أن موسى عليه السلام ضرب الحجر المذكور إمَّا بعصاه المعلومة، وإمَّا بحجر أخذه في مروره من الأرض، أو من عند الماء لا بيده الشريفة؛ لأنَّ الأحجار وغيرها مما له ثقالة لا يضرب إلا بمثله، أو أثقل منه كما هو العادة، فكان الحجر ذا أثر؛ ثم رأيت العجلوني نقل عن الحافظ الطحاوي في روايته لهذا الحديث عن أبي هريرة: أن موسى خلا يومًا وحده فوضع ثوبه على حجر، ثم اغتسل، فلما فرغ من غسله؛ أقبل إلى ثوبه ليأخذه وإن الحجر عدا بثوبه، فأخذ موسى بعصاه وطلب الحجر...)؛ الحديث، فهذا يعين الأول، ويحتمل الثاني؛ فتأمل، والله أعلم.

ويجوز جعل ضمير (إنه) للشأن، ويقدر لهو ندب؛ فليحفظ.

قال صاحب «عمدة القاري» : (ففي الحديث: إباحة التعرِّي في الخلوة للغسل وغيره؛ بحيث يأمن أعين الناس، وفيه: دليل على جواز النظر إلى العورة عند الضرورة الداعية عليه من مداواة أو براءة من العيوب، أو إثباتها؛ كالبرص وغيره مما يتحاكم الناس فيها مما لا بد فيه من رؤية البصر بها، وفيه: جواز الحلف على الإخبار؛ كحلف أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه: دلالة على معجزة موسى عليه السلام وهو مشي الحجر بثوبه إلى ملأ من بني إسرائيل ونداؤه عليه السلام للحجر، وتأثير ضربه فيه حقيقة، وفيه: دليل على أن الله تعالى كمَّل أنبياءه خلقًا وخلقًا ونزَّههم عن المعايب والنقائص، وفيه: ما غلب على موسى عليه السلام من البشرية حتى ضرب الحجر) انتهى.

قيل: المراد بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللهِ وَجِيهًا} [الأحزاب: ٦٩] : ما نسبوه إليه من الأدرة المذكورة.

وقال الحافظ الطحاوي فيما رواه عن أبي هريرة في هذه الآية: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إن موسى كان رجلًا حيِّيًا سِتِّيرًا لا يكاد أن يرى من جلده شيء يستحيى منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل وقالوا: ما يستتر هذا التستر إلا من عيب بجلده إما برص وإما أدرة»، هكذا قال لنا (٣) بعض (٤) رواة هذا الحديث، وأهل اللغة يقولون: أدرة؛ لأنَّها آدر (٥)؛ بمعنى: آدم، وإن الله عز وجل أراد أن يبرئه مما قالوا، ومما روي عن علي بن أبي طالب في هذه الآية قال: صعد موسى وهارون الجبل فمات هارون، فقال بنو إسرائيل لموسى: أنت قتلته كان ألين لنا منك وأشد حبًّا، فآذوه بذلك،


(١) في الأصل: (فرا)، وليس بصحيح.
(٢) في الأصل: (ناد)، وليس بصحيح.
(٣) في الأصل: (قالنا)، وليس بصحيح.
(٤) (بعض) : تكرر في الأصل.
(٥) في الأصل: (آدرة)، ولعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>