للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

فأمر الله الملائكة فحملته وتكلمت بموته حتى عرفت بنو إسرائيل أنه قد مات، فدفنوه، فلم يعرف موضع قبره إلا الرخم، فإن الله جعله أبكم أصم، ولا تعارض في ذلك؛ لأنَّه يجوز أن يكونوا آذوه بكل ما ذكر، فبرأه الله تعالى منها، والله تعالى أعلم.

٢٧٩ - وبالسَّند المتقدم في هذا الحديث قال المؤلف: (وعن أبي هريرة) رضي الله تعالى عنه، فهو موصول، قال إمام الشارحين في «عمدة القاري» : هذا معطوف على الإسناد الأول، وقد صرح أبو مسعود وخلف في «أطرافهما» أن البخاري رواه هنا: عن إسحاق ابن نصر، وفي (أحاديث الأنبياء) : عن عبد الله بن محمَّد الجعفي؛ كلاهما عن عبد الله، ورواه أبو نُعيم الأصبهاني: عن أبي أحمد بن شيرويه: (حدثنا إسحاق: أنبأنا عبد الرزاق)؛ فذكره، وأورد الإسماعيلي حديث عبد الرزاق، عن معمر، ثم لما فرغ منه؛ قال: وعن أبي هريرة قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «بينا أيُّوب يغتسل...»؛ الحديث.

وقال ابن حجر: (وجزم الكرماني بأنه تعليق بصيغة التمريض، فأخطأ، فإن الخبرين ثابتان في نسخة همام بالإسناد)، ورده صاحب «عمدة القاري».

قلت: (الكرماني لم يجزم بذلك، وإنما قال: تعليق بصيغة التمريض؛ بناء على الظاهر أنه لم يطلع على ما ذكرنا) انتهى.

وزعم ابن حجر في «الانتقاض» فقال: (انظر وتعجب) انتهى.

قلت: لا نظر ولا تعجب في كلام إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري»؛ لأنَّه قال الحق ورد الباطل، وإنما النظر والتعجب في كلام ابن حجر، فإنه قد استعجل القول بالخطأ ولم يلتفت إلى قوله تعالى: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ..}؛ الآية [الشعراء: ١٨٣] فإن كلام الكرماني مبني على الظاهر؛ حيث لم يطلع على ما ذكره صاحب «عمدة القاري»، ولو اطلع عليه؛ لم يقل: إنَّه تعليق قطعًا، ألا ترى أن ابن حجر لو لم يطلع على ما ذكره إمام الشارحين؛ لقال: إنه تعليق بلا ريب، فالأدب ممدوح لا مذموم، والإنسان غير معصوم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

(عن النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) أنه زاد في رواية: (قال) : (بينا)؛ بالألف بدون الميم، قال صاحب «عمدة القاري» : (أصله «بين» بدون ألف، زيدت الألف فيه؛ لإشباع الفتحة، والعامل فيه قوله: «فخرَّ» الآتي، وما قيل: إن ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها؛ لأنَّ فيه معنى الجزائية؛ لأنَّ «بين» متضمن للشرط؛ فجوابه: لا نسلم عدم عمله سيما في الظرف؛ لأنَّ فيه توسعًا، والعامل «فخرَّ» مقدر، والمذكور مفسر له، وما قيل: إنَّ المشهور دخول «إذ» أو «إذا» في جوابه، فجوابه كما أن «إذا» تقوم مقام الفاء في جزاء الشرط؛ نحو قوله تعالى: {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم: ٣٦]، كذلك تقوم الفاء مقام «إذا» في جواب «بين»، فبينهما معارضة) انتهى، (أيُّوب) اسم أعجمي، وهو ابن أموص بن رزاخ بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن عليهم السلام، وهذا هو المشهور، وقيل هو: ابن أموص بن رواح بن روم بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، وأمه بنت لوط عليه السلام، كذا في «عمدة القاري»، وهو النبيُّ المبتلى الصابر على بلائه؛ حيث أذهب الله أمواله وأولاده وكانوا سبعة بنين وسبع بنات، وابتلاه الله في ظاهر جسده بما يجوز على الأنبياء عليهم مدة سبع سنين، وقيل: ثماني عشرة، وقيل: ثلاث عشرة، والأصح الأول وهو مع ذلك شاكر لله تعالى أوَّاب إليه، فرد الله تعالى عليه جميع ما أذهبه، قيل: بأعيانهم، وقيل: بأمثالهم، وهو الأظهر؛ لأنَّ فضل الله أوسع من ذلك؛ لما روي أن امرأته ولدت بعد البلاء ستة وعشرين ابنًا، قال في «عمدة القاري» : (وكانت منازله الثنية في أرض الشام والجابية من كورة دمشق، وكان الجميع له، ومقامه في حوران بقرية تعرف بدير أيُّوب، وقبره بها مشهور، وهي قرية قرب نوى عليه مشهد، وهناك قدمٌ في حجر يقولون: إنها أثر قدمه، وهناك عين يتبرك بها لما قيل إنها المذكورة في القرآن العظيم، وكان أعبد أهل زمانه) انتهى، وأكثرهم مالًا وكان لا يشبع حتى يشبع الجائع، ولا يكتسى حتى يكسي العاري، وكانت شريعته التوحيد وإصلاح ذات البين، وإذا طلب من الله حاجة؛ خرَّ له تعالى ساجدًا ثم طلب، صلى الله عليه وعلى نبينا النبي الأعظم وسلم.

قال صاحب «عمدة القاري» : (وعاش ثلاثًا وتسعين سنة) انتهى.

وقيل: خمسًا وتسعين، وقيل: مئتين، وقال القسطلاني: (إنه عاش ثلاثًا وستين سنة) انتهى.

قال العجلوني: إن كان مستنده قول الكرماني وكان عمره ثلاثًا وستين، ومدة بلائه سبع سنين، فقد يقال: لا دليل فيه لاحتمال أنه إخبار عنه حين اغتسل عريانًا أو حين ابتدأ بلاؤه؛ فليتأمل.

قلت: وهذا غير ظاهر؛ لأنَّ قول القسطلاني وكذا الكرماني يدل على أنه عليه السلام عاش بعد الاغتسال عريانًا، وبعد الابتلاء ثلاثًا وستين سنة، فكأنه ابتدأ البلاء فيه حين كان عمره ثلاثًا وعشرين، ومدة البلاء سبع سنين على الأصح فشفي فاغتسل، وبعد ذلك عاش ثلاثًا وستين، فكأن عمره ثلاثًا وتسعين سنة، وهو الأظهر، كما لا يخفى؛ فافهم.

وقوله: (يغتسل)؛ أي: من الجنابة، جملة في محل الرفع؛ لأنَّها خبر المبتدأ وهو قوله: (أيُّوب)، والمبتدأ وخبره جملة في محل جر بإضافة (بين) إليه، كذا في «عمدة القاري».

قلت: لأنَّ الصحيح أنها تضاف إلى الجمل وإن اتصلت بها الألف؛ لأنَّها إنَّما تكفها عن الإضافة إلى المفرد؛ فافهم.

(عُرْيانًا)؛ بضمِّ العين المهملة، وسكون الراء، منصوب على الحال، مصروف؛ لأنَّه (فُعلان) بالضم بخلاف (فَعلان) بالفتح، كما عرف في موضعه، قاله في «عمدة القاري»، وجملة (فخر عليه جرادٌ)؛ بالرفع فاعل (خر)) (من ذهب) جواب (بينا)، و (خر) مضارعه يخر بالكسر والضم؛ أي: سقط عليه من أعلى إلى أسفل، وقيل: هو السقوط مطلقًا، كما في «القاموس»، والجَراد: بفتح الميم، جمع جرادة تقع على الذكر والأنثى، وليس الجراد بذَكَرٍ للجرادة، وإنما هو اسم جنس؛ كالبقر والبقرة، والتمر والتمرة، والحمام والحمامة، فحق مذكره ألا يكون مؤنثه من لفظه؛ لئلا يلتبس الواحد المذكر بالجمع، كذا في «الصحاح»، وقال ابن سيده: (الجراد معروف هو سروة، ثم دبًّا، ثم غوغاء، ثم خيفانًا، ثم كتفان، ثم جراد)، وقال أبو إسحاق: (أول ما يكون الجراد دبًّا، ثم غوغاء؛ إذا ماج بعضه في بعض، ثم يكون كنفانًا، ثم يصير خيفانًا، ثم يكون جرادًا)، وقيل: الجراد المذكر، والجرادة الأنثى، ومن كلامهم رأيت جرادًا على جرادة؛ كقولهم: رأيت نعامًا على نعامة، وقال ابن دريد: (سمي الجراد جرادًا؛ لأنَّه يجرد الأرض فيأكل ما عليها)، كذا في «عمدة القاري».

قال القسطلاني: (وهل كان جرادًا حقيقة ذا روح إلا أن اسمه ذهب، أو كان على شكل الجراد، وليس فيه روح)، قال في «شرح التقريب» : (والأظهر الثاني) انتهى.

قلت: بل هو المتعين؛ لأنَّ السقوط، والذهب، والحثيلا يكون لذي الروح، بل لما لا روح له؛ لأنَّه من الجمادات حينئذٍ؛ فافهم، ولأن ذا الروح لا يحثى للبركة، وإنما كان ينزل آية العذاب، فالقول الثاني هو المتعين؛ فليحفظ.

وعند المؤلف في (أحاديث الأنبياء) : (رِجل من جراد)، وهي بكسر الراء؛ الجراد الكثير، (فجعل أيُّوب) عليه السلام (يَحْتَثِي)؛ بفتح التحتية، وسكون الحاء المهملة، بعد فوقية مفتوحة، وكسر المثلثة؛ يعني: يأخذ بيديه ويرمي (في ثوبه) وفي بعض النسخ: (يحثي)؛ بدون الفوقية؛ يعني: أنه بسط ثوبه وصار يحثي بيديه ويرى فيه، قال في «عمدة القاري» : (يحتثي) من باب (الافتعال) من الحَثْي بفتح المهملة، وسكون المثلثة، قال ابن سيده: (الحثي: ما رفعت به يديك، يقال: حثى يحثي ويحثو، والياء أعلى)، وفي «الصحاح» : (حثا في وجهه التراب يحثو ويحثي حثوًَّا وحثيًّا وتحثاءً، وحثوت له؛ إذا أعطيته شيئًا يسيرًا، ويقال: الحثية باليدين جميعًا

<<  <   >  >>