البالغة، هذا مذهب الإمام الأعظم رئيس المجتهدين وأصحابه، والجمهور، وذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم: أن على الصغيرة والأمة الإحداد أيضًا، وأجمعوا على أنه لا إحداد على أم الولد والأمة إذا توفي عنها سيدها؛ لأنَّ الأحاديث إنَّما جاءت في الأزواج وهما ليسا بزوجة، ولا على الرجعية، لكن يستحب لها التزين والتطيب؛ ترغيبًا للزوج، كما صرح به في «الدر المنتقى» عن «السراجية».
وفي المطلقة ثلاثًا قولان؛ فمذهب إمامنا رئيس المجتهدين الإمام الأعظم، وأصحابه، والحكم، وأبو ثور، وأبو عبيد؛ أن عليها الإحداد، وهو أحد قولي الشافعي، وبه قال الحسن بن حي، وسَعِيْد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وابن سيرين، والثوري، ومذهب مالك، والشافعي: لا إحداد عليها، وبه قال ربيعة، وعطاء، والليث، وابن المُنْذِر، ومذهب الحسن البصري: أنه لا يجب الإحداد على المطلقة ولا على المتوفى عنها زوجها، وهو شاذ، كما قاله أحمد ابن حنبل، وقال ابن عبد البر: (أجمع الناس على وجوب الإحداد على المتوفى عنها زوجها إلا الحسن، فإنه قال: ليس بواجب، واحتج بما رواه عبد الله بن شداد بن الهاد عن أسماء بنت عميس قالت: لما أصيب جعفر (١) بن أبي طالب؛ قال لي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «تسلي ثلاثًا، ثم اصنعي ما شئت»).
قال ابن المُنْذِر: (كان الحسن البصري من بين سائر أهل العلم لا يرى الإحداد على المطلقة ثلاثًا والمتوفى عنها زوجها، وقد بينت الأخبار عن النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم بالإحداد، وليس الإحداد بلغته إلا التسليم، ولعل الحسن لم تبلغه أو بلغته، وتأولها بحديث أسماء بنت عميس: أنها استأذنت النبي عليه السلام أن تحد على جعفر وهي امرأته؛ فأذن لها ثلاثة أيام ثم بعث إليها بعد ثلاثة أيام أن: «تطهري واكتحلي»، وقد دفع هذا الحديث أهل العلم بوجوه؛ وكان إسحاق يقول: إن هذا الحديث شاذ، وكذا كان يقول أحمد ابن حنبل، فلا يؤخذ به) انتهى.
وفي قول النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا» دليل على أن الكتابية المتوفى عنها زوجها المسلم لا حداد عليها، وهو مذهب الإمام الأعظم، وأصحابه، وأبو ثور، وابن كنانة، وابن رافع، وهو رواية أشهب عن مالك، وروى عنه ابن القاسم: أن عليها الإحداد كالمُسْلِمَة، وبه قال الليث، والشافعي، وعامة أصحاب مالك، وصريح الحديث يرده؛ لأنَّه عليه السلام وصف المرأة بالإيمان، كما لا يخفى.
وفي قوله عليه السلام: «فوق ثلاث...» إلخ دليل على تحريم إحداد المسلمات على غير أزواجهن فوق ثلاث، وإباحة الإحداد عليهم ثلاثًا تبدأ بالعدد من الليلة التي تستقبلها إلى آخر ثالثها.
وقال إمام الشارحين في «عمدة القاري» : فإن قلت: لم خص الأربعة الأشهر والعشر؟ قلت: لأنَّ غالب الحمل تتبين حركته في هذه، وأنث العشر؛ لأنَّه أراد بها الأيام بلياليها، وهو مذهب العلماء كافة إلا ما حكي عن يحيى بن أبي كثير والأوزاعي أنه أراد أربعة أشهر وعشر ليال، وأنها تحل في اليوم العاشر، وعند الجمهور: لا تحل حتى تدخل ليلة الحادي عشر، وهذا خرج على أحوال المعتدات أنها تعتد بالأشهر، أما إذا كانت حاملًا؛ فعدتها بالحمل، ويلزمها الإحداد في جميع المدة حتى تضع سواء قصرت المدة أم طالت، فإذا وضعت؛ فلا إحداد بعده، وقال بعض العلماء: لا يلزمها الإحداد بعد أربعة أشهر وعشرٍ وإن لم تضع الحمل) انتهى.
ثم قال: وفي الحديث دليل على تحريم الكحل سواء احتاجت إليه أم لا، وجاء في «الموطأ» وغيره عن أم سَلَمَة: «اجعليه بالليل، وامسحيه بالنهار»، ووجه الجمع إذا لم تحتج إليه؛ لا يحل لها فعله، وإن احتاجت إليه؛ لم يجز بالنهار دون الليل، والأولى تركه؛ لحديث: (إن ابنتي اشتكت عينها أفتكحلها؟ قال: «لا»)؛ ولهذا إنَّ سالمًا وسليمان بن يسار قالا: [إنها] إذا خشيت على بصرها، إنها تكتحل وتتداوى به وإن كان مطيبًا، وهو مذهب الإمام الأعظم رضي الله عنه؛ لأنَّ الضرورات تبيح المحظورات، وبه قال مالك في غير مطيب، وقال صاحب «التوضيح» : (والمراد بالكحل: الأسود والأصفر، وأما الأبيض؛ فلا تحريم فيه عند أصحابنا؛ إذ لا زينة فيه، وحرمه بعضهم على الشعثاء حتى تتزين) انتهى، ثم قال: وفي الحديث دليل على تحريم الطيب، وهو ما حرم عليها في حال الإحرام سواء كان في ثوبها أو بدنها، وقال صاحب «التوضيح» : (يحرم عليها كل طعام فيه طيب) انتهى.
قلت: وفيه تحريم الخضاب بالحناء إلا لعذر، قال ابن المُنْذِر: (لا أعلم خلافًا أن الخضاب داخل في جملة الزينة المنهي عنها).
وقال صاحب «عمدة القاري» : (وفي الحديث دليل على تحريم لبس الثياب المعصفرة)، وقال ابن المُنْذِر: أجمع العلماء على أنه لا يجوز للحادة لبس الثياب المعصفرة والمصبوغة إلا ما صبغ بسواد؛ فرخص فيه عروة بن الزبير، والإمام الأعظم، ومالك، والشافعي، وكرهه الزُهْرِي.
قلت: وعلله أئمتنا الأعلام بأن الأسود لا يقصد به الزينة، وكذا الأزرق، وقال في «المحيط» : (والمراد بالثوب: ما كان جديدًا يقع به التزين، أما الثياب الخلقة؛ فلا بأس بلبسها؛ لأنَّه لا يقصد بها إلا ستر العورة، والأحكام تبنى على المقاصد) انتهى.
وفي «الدر المنتقى» : (ويحرم لبس المصبوغ بمفرة أو عصب) انتهى، هذا مذهب إمامنا رأس المجتهدين الإمام الأعظم، وبه قال الزُهْرِي؛ لما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نهى عن عصب اليمن، وقال: (نبت يصبغ بالبول)، وقال مالك: (لا يلبس رقيق عصب اليمن)، ووسع في غليظه؛ لأنَّ رقيقه بمنزلة المصبغة.
لا يقال: هذا مخالف للحديث؛ لأنا نقول: إن الحديث محمول على ما لم يصبغ بالبول، على أن العصب الموجود في زمان الإمام الأعظم وغيره من التابعين لم يكن زمن النبي الأعظم عليه السلام، فلعله قد نسج بحرير، أو تغيرت ألوانه، أو غير ذلك، كما هو مبين في محله، والله أعلم؛ فافهم.
وقال ابن المُنْذِر: (ورخص كل من أحفظ عنه في لباس البياض)، والأصح عند الشافعية: تحريم البرد مطلقًا رقيقًا أو غيره، وهذا الحديث حجة لمن أجازه وعلى من منعه، ومذهب الإمام الأعظم: أنه تحرم الزينة بأنواعها حليًّا كان، أو قصبًا، أو خزًّا، حريرًا غير أسود، قال شارح «الملتقى» : (ومنه الامتشاط بضيِّق الأسنان، فلا يحل؛ وذلك لعموم هذا الحديث، وروى ابن المواز عن مالك: أنها لا تلبس حليًّا وإن كان حديدًا، وكل لباس تلبسه المرأة على وجه التجمل يحرم على الحادِّ لبسه)، وقال الشافعي: كل صبغ كان زينة؛ فلا تمسه الحادة غليظًا كان أو رقيقًا، وروي عنه: منع جيد البياض والرفيع من السواد، والحديث المذكور حجة عليه؛ لأنَّ البياض مباح، وإذا منعت من المصبغ؛ فلم يبق إلا البياض، ولأن الأسود لا يقصد التزين به؛ فهو ممنوع، كما لا يخفى.
وفي الحديث: دليل على الترخيص للحادة إذا اغتسلت من الحيض، وكذا النفاس التطيب؛ لإزالة الرائحة الكريهة؛ لأنَّ الدم له ريح، فرخص لها في التبخر بالطيب؛ لدفع رائحة الدم عنها؛ لما تستقبله من الصَّلاة ومجالسة الملائكة؛ لئلا تؤذيهم برائحة الدم، ولأن ذلك يكون أسرع إلى علوق الولد وتنشط البدن.
وفي الحديث: تحريم اتباع النساء الجنائز، وسيأتي الكلام عليه مفصلًا في بابه إن شاء الله تعالى، والله الكريم أسأل أن يفرج عنا وعن المسلمين.
(١) في الأصل: (علي)، وليس بصحيح.