الباب اللاحق: أنَّها استعارت من أسماء قلادة) انتهى.
قلت: وفيه نظر؛ وما المانع من أن تكون القلادة ملكًا لها، وأنَّها المقطوعة، والمستعارة غيرها؟ فإنَّ ظاهر هذا الحديث أنَّ القلادة ملك لها، فإَّن قولها: (انقطع عقد لي) ظاهر في الملكية، والاختصاص بها، وكيف تخبر عائشة الصديقة زوج النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّ القلادة لها، والحال أنَّها لأسماء؟! وما كان يمنعها عن الإخبار بالواقع، وكيف يقال هذا؟! فعائشة لم تخبر إلَّا بالواقع: وهو أنَّ العقد المقطوع هو ملك لها، وأنَّ الذي استعارته هو غيره؛ لما قدَّمنا من رواية الطبراني، وفيه قالت عائشة: (لمَّا كان من أمر عقدي ما كان...)؛ الحديث؛ فانظر: كيف أضافته لنفسها، وما هي إلا باعتبار التملك والاختصاص، وقال أبو عبيد البكري في حديث الإفك: (فانقطع عقد لي)، وقال محمَّد بن حبيب الأنصاري: (سقط عقد عائشة...)؛ الحديث، فهذا كلُّه يدلُّ على أنَّ العقد ملك لعائشة، ويحتمل تعدُّد القصَّة؛ لما قدَّمنا في حديث الطبراني، قالت: (خرجت مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في غزوة أخرى؛ فسقط أيضًا عقدي...)؛ الحديث؛ ولو اضطلع القسطلاني على هذا؛ لما قال ما قال، والحق أحقُّ أن يتَّبع؛ فافهم.
(فأقام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم على التماسه) أي: لأجل طلب العقد، (وأقام الناس معه) وقال أبو عبيد البكري في حديث الإفك: (فانقطع عقد لي من جزع أظفار، فحبس الناس ابتغاءه) ففيه دليل على حرمة الأموال الحلال، وأنَّه لا يضيِّعها وإن كان قليلًا، ألا ترى أنَّ العقد كان ثمنه اثني عشر درهمًا، كما قدمناه، وفيه دليل على جواز حفظ الأموال وإن أدَّى إلى عدم وجود الماء في الوقت، وفيه دليل على جواز اتِّخاذ النساء الحلي واستعمال القلادة تجمُّلًا لأزواجهنَّ، كذا قرَّره إمام الشارحين، (وليسوا على ماء وليس معهم ماء) كذا في رواية الأكثرين في الموضعين، وسقطت الجملة الثانية في الموضع الأول في رواية أبي ذرٍّ، قاله إمام الشارحين؛ يعني: ليس عندهم ماء يكفي للوضوء، ويحتمل التعميم، والأظهر الأول، (فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق) الأكبر رضي الله عنه، وفيه دليل على أنَّه هو الخليفة بعده عليه السَّلام، وإنَّما أتوا إليه ولم يأتوا النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ يحتمل أنَّهم غلبهم الحياء منه عليه السلام، ويحتمل أنَّهم علموا إن أتوه عليه السلام؛ يغتاظ ويتأذَّى من فعل عائشة، ويحتمل أنَّهم علموا أنَّه عليه السلام كان نائمًا وقتئذٍ، (فقالوا) للصدِّيق الأكبر: (ألا ترى) أي: تعلم (إلى ما صنعت عائشة؟) بإثبات ألف الاستفهام الداخلة على كلمة (لا)، وفي رواية الحمُّوي: (لا ترى)؛ بسقوطها، ففيه نسبة الفعل إلى من كان مسبِّبًا فيه؛ ولذا صرَّحوا باسم عائشة رضي الله عنها، والذي صنعته هو أنَّها (أقامت برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم والناس) بالجر عطفًا على المجرور (وليسوا على ماء وليس معهم ماء) وأسندوا الفعل إليها؛ لأنَّه كان بسببها، (فجاء أبو بكر) أي: الصدِّيق الأكبر إلى عند السيدة عائشة (ورسول الله) الواو للحال (صلَّى الله عليه وسلَّم واضع رأسه) الشريف (على فَخِذي) بفتح الفاء، وكسر الخاء، والذال المعجمتين (قد نام) أي: عليه، والظاهر أنَّ الإقامة كانت ليلًا، وأنَّهم لم يصلُّوا صلاة الوتر الواجبة؛ لأنَّ عادته عليه السلام تأخير صلاة الوتر إلى آخر الليل؛ فليحفظ، وفيه الاستدلال على الرخصة في ترك التهجد في السفر إن ثبت أنَّ التهجد كان واجبًا عليه عليه السلام، (فقال) أي: أبو بكر لعائشة (حبستِ)؛ بكسر تاء التأنيث؛ أي: منعت (رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) من السفر، (و) حبست (الناس) أي: منعتهم من السفر أيضًا (وليسوا على ماء وليس معهم ماء) يعني: ليس عندهم عين جارية، وليس عندهم في رحالهم ماء يكفي لوضوئهم، ويحتمل أنَّه كان عندهم في رحالهم ماء، لكنَّهم في احتياجه للشرب لهم ولدوابهم وطعامهم؛ لأنَّ القافلة لا تخلو من الماء غالبًا؛ فافهم.
(فقالت عائشة) رضي الله عنها: (فعاتبني أبو بكر) وإنَّما لم تقل عائشة: عاتبني أبي، وسمته باسمه؛ لأنَّ مقام الأبوَّة لمَّا كان يقتضي الحنوَّ والشفقة، وعاتبها أبو بكر؛ صار مغايرًا لذلك، فلذلك أنزلته منزلة الأجنبي؛ فلم تقل: أبي، وكأنها اغتاظت منه لما يأتي، (وقال) أي: أبو بكر لها (ما شاء الله أن يقول)، وفي رواية عمرو بن الحارث، فقال: (حبست الناس في قلادة) أي: لأجلها، وفي رواية الطبراني قال: (يا بنية؛ في كلِّ سفر تكونين عناء وبلاء، ليس مع الناس ماء) (وجعل يطعنُني)؛ بضمِّ النون، والعين المهملة، وكذلك جميع ما هو حسي، وأمَّا المعنوي؛ فيقال: يطعن بالفتح، هذا هو المشهور فيهما معًا، كذا في «المطالع»، وحكى صاحب «الجامع» الضمَّ فيهما، قاله إمام الشارحين.
قلت: فالحسِّيُّ؛ كالرمح والعصا، فهو بالضمِّ، والمعنويُّ؛ كالطعن في النسب والقول، فهو بالفتح أو كلاهما بالفتح، كما علمت.
(بيده في خَاصِرتي)؛ بفتح الخاء المعجمة، وكسر الصاد المهملة، وهي الشاكلة، (فلا) وللأصيلي: (فما) (يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم على فخذي)، وفيه دليل على استحباب الصبر لمن ناله ما يوجب الحركة؛ إذ يحصل به التشويش للنائم، وكذا المصلي، والقارئ، والمشتغل بالعلم أو الذكر، وفيه دليل على جواز دخول الرجل على ابنته وإن كان زوجها عندها، إذا علم رضاه بذلك، ولم يكن حالة مباشرة، وفيه دليل على جواز تأديب الرجل ابنته ولو كانت مزوجة كبيرة خارجة عن بيته، ويلحق بذلك تأديب من له تأديبه ولو لم يأذن له الإمام؛ فافهم.
(فقام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حين أصبح)، وفي رواية: (فنام حتى أصبح)، والمعنى فيهما متقارب؛ لأنَّ كلًّا منهما يدلُّ على قيامه من نومه كان عند الصبح، وليس المراد بقوله: (حتى أصبح) بيان غاية النوم إلى الصباح، بل بيان غاية فقد الماء إلى الصباح؛ لأنَّه قيد بقوله: (حين أصبح) بقوله: (على غير ماء) متعلق بـ (قام)، و (أصبح) على طريقة تنازع العاملين، و (أصبح) بمعنى: دخل في الصباح، وهي تامة؛ فلا تحتاج إلى خبر، كذا قرره إمام الشارحين؛ فليحفظ.
ففيه دليل على أنَّ طلب الماء لا يجب إلا بعد دخول الوقت، ويدل لهذا قوله في رواية عمرو بن الحارث: (وحضرت الصَّلاة، فالتمس الماء)، (فأنزل الله آية التيمم) وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ..} إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: ٦]، كما ذكره الحميدي، وسيأتي.
وقال ابن العربي: (لا نعلم أي الآيتين عنت عائشة).
وقال ابن بطال: (هي آية النساء أو آية المائدة).
وقال القرطبي: (هي آية المائدة؛ لأنَّ آية النساء تسمَّى آية الوضوء، وليس في آية المائدة ذكر الوضوء).
وقال الواحدي: (عند ذكر آية النساء