للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

أيضًا والآيتان مدنيتان، ولم تكن صلاة قبل إلا بوضوء، فلمَّا نزلت آية التيمم؛ لم يذكر الوضوء؛ لكونه متقدمًا متلوًّا؛ لأنَّ حكم التيمُّم هو الطارئ على الوضوء، وقيل: يحتمل أن يكون نزل أولًا أول الآية، وهو فرض التيمم، ثم نزلت (١) عند هذه الواقعة آية التيمم وهو تمام الآية: {وَإِن كُنتُم مَّرْضَى} [النساء: ٤٣]، ويحتمل أن يكون الوضوء كان بالسنة لا بالقرآن، ثم نزلا معًا، فعبَّرت عائشة بالتيمم؛ لأنَّه المقصود.

قال إمام الشارحين: (ولو وقف هؤلاء على ما ذكره أبو بكر الحميدي في «جمعه» في حديث عمرو بن الحارث، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة... ؛ فذكر الحديث، وفيه فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ..}؛ الآية إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}؛ لما احتاجوا إلى هذا التخرُّض، وكأنَّ البخاري أشار إلى هذا؛ إذ تلا بقيَّة الآية الكريمة) انتهى كلامه رحمه الباري.

({فَتَيَمَّمُوا}) [النساء: ٤٣]؛ بصيغة الماضي؛ أي: فتيمم الناس بعد نزول الآية، وهي قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً}، والظاهر أنَّ صيغة الأمر على ما هو لفظ القرآن ذكره؛ بيانًا أو بدلًا عن آية التيمم؛ أي: أنزل الله {فَتَيَمَّمُوا} (٢)، قاله إمام الشارحين، وفيه دليل على افتراض النية في التيمم؛ لأنَّ معنى قوله تعالى: {تَيَمَّمُوا} (٣) : اقصدوا، وهو قول الإمام الأعظم، والإمام أبي يوسف، والإمام محمَّد بن الحسن، وبه قال مالك، ومحمَّد بن إدريس، وأحمد ابن حنبل، والجمهور، وقال الإمام زفر، والأوزاعي: النيَّة فيه ليست بفرض قياسًا على الوضوء؛ فإنَّ الماء خلق مطهرًا؛ لقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: ٤٨]، والتراب أيضًا طاهر لقوله: {صَعِيدًا طَيِّبًا}؛ أي: طاهرًا، فإذا كان الماء مطهرًا بنفسه؛ لا يحتاج إلى نيَّة الوضوء، فكذلك التراب لا يحتاج فيه إلى نيَّة التيمم يدلُّ عليه قوله عليه السلام: «التراب طهور المسلم...»؛ الحديث، وقوله عليه السلام: «جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا...»؛ الحديث رواهما الشيخان، وقال الجمهور: مطلق القصد غير مراد بالإجماع، بل المراد: القصد الشرعي وهو لا يكون بدون النيَّة؛ يعني: أنَّ النصَّ يدلُّ على اشتراط القصد إلى الصعيد للطهارة؛ فإنَّه تعالى أمر بالغسل بالماء الذي هو مطهر طبعًا؛ ليحصِّل الطهارة، ثم أقام الصعيد مقامه عند عدمه في تحصيل ذلك المقصود بقوله: {فَتَيَمَّمُوا (٤) صَعِيدًا}، والتيمم: القصد فكأنَّ المراد: فإن لم تجدوا ماءً للتطهير؛ فاقصدوا إلى الصعيد للطهارة، فكان القصد إليه للطهارة داخلًا تحت الأمر على أنَّه التراب غير مطهر حقيقة، بل هو ملوث، فالشرع جعله طهورًا بشرطين؛ أحدهما: عدم الماء، والثاني: بالنية بأن يكون للصلاة؛ لأنَّ التراب غير طهور طبعًا، وإنَّما صار طهورًا في حالة مخصوصة شرعًا، وتمامه في شروح «الهداية»، (فقال) وفي رواية: (قال) (أُسَيْد) بضمِّ الهمزة مصغر: أسد (بن الحُضَيْر) بضمِّ الحاء المهملة، وفتح الضاد المعجمة، وسكون التحتية، آخره راء، قال الكرماني: وفي بعضها بالنون، وفي بعضها: (الحضير)؛ بالألف واللام، وهو نحو: الحارث من الأعلام التي تدخلها لام التعريف جوازًا، قال إمام الشارحين: (إنَّما يدخلونها للمح الوصفية)، و (أُسَيْد بن الحضير) ابن شمال الدوسي الأنصاري الأشهل أبو يحيى، أحد النقباء ليلة العقبَة الثانية، مات بالمدينة سنة عشرين، وحمل عمر بن الخطاب جنازته مع من حملها وصلَّى عليه، ودفن بالبقيع، ثم قال: فإن قلت: في رواية عبد الله بن نمير، عن هشام: (فبعث رجلًا فوجدها)، وفي رواية مالك: (فبعثنا البعير فأصبنا العقد).

قلت: ليس بينهما تناقض؛ لأنَّه يحتمل أن يكون المبعوث هو أُسَيْد بن حضير، فوجدها بعد رجوعه من طلبها، ويحتمل أن يكون عليه السلام هو وجدها عند أثارة البعير بعد انصراف المبعوثين إليها؛ فلا يكون بينهما تعارض، قاله المهلب.

واعترضه إمام الشارحين فقال: هما واقعتان كما أشرنا إليه في الرواية الأولى: (عقد)، وفي الأخرى: (قلادة)، فلا تعارض حينئذٍ، ويحتمل أن يكون قوله: (بعث رجلًا) يعني: أميرًا على جماعة كعادته، فعبَّر بعض الرواة بـ (أناس)؛ يعني: أُسَيْدًا وأصحابه، وبعضهم بـ (رجل) : يعني: المشار إليه، أو يكون قولها: (فوجده)؛ تعني بذلك: النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، لا الرجل المبعوث.

فإن قلت: معنى قول أُسَيْد قاله دون غيره.

قلت: لأنَّه كان رأس المبعوثين في طلب العقد الذي ضاع، انتهى كلامه رضي الله عنه.

(ما هي) أي: البركة؛ فإنَّ القرينة الحالية والمقالية يدلان على أنَّ (هي) يرجع إلى البركة وإن لم يحضر ذكرها، والمراد بها: رخصة التيمم التي حصلت للمسلمين؛ أي: ليس هذه البركة (بأول بركتكم) والبركة: كثرة الخير (يا آل أبي بكر) بل هي مسبوقة بغيرها من البركات، ولفظة (آل) مقحمة، وأراد به: أبا بكر نفسه، ويجوز أن يراد به: أبا بكر وأهله وأشياعه، و (الآل) يستعمل في الأشراف بخلاف الأهل، ولا يزداد طرًّا الآل، وفرَّق؛ لأنَّه بحسب تصوره ذكر ذلك، أو بطريق التهكم، ويجوز فيه: يال أبي بكر؛ بحذف الهمزة؛ للتخفيف، كذا قاله إمام الشارحين، ثم قال: وفي رواية عمرو بن الحارث: (لقد بارك الله للناس فيكم)، وفي تفسير إسحاق السبتي من طريق ابن أبي مليكة، عن عائشة: أنَّ النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم قال لها: «ما كان أعظم بركة قلادتك»، وفي رواية هشام بن عروة الآتية: «فوالله ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله للمسلمين فيه خيرًا»، وفي (النكاح) من هذا الوجه: «إلا جعل الله لك منه مخرجًا، وجعل للمسلمين منه بركة»، وهذا يشعر أنَّ هذه القصة بعد قصة الإفك؛ فيقوى قول من ذهب إلى تعدُّد ضياع العقد، وممن جزم بذلك محمَّد بن حبيب الأنصاري، فقال: (سقط عقد عائشة في غزوة ذات الرقاع، وفي غزوة بني المصطلق)، وقد اختلف أهل المغازي في أيِّ هاتين الغزاتين كانت أولًا، فقال الداودي: (كانت قصة التيمم في غزوة الفتح)، ثمَّ تردَّد في ذلك، وقد روى ابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة قال: (لمَّا نزلت آية التيمم؛ لم أدر كيف أصنع الحديث؟)، فهذا يدل على تأخرها عن غزوة بني المصطلق؛ لأنَّ إسلام أبي هريرة كان في السنة السابعة وهي بعدها بلا خلاف، وسيأتي في (المغازي) إن شاء الله تعالى أنَّ البخاري يرى أن غزوة ذات الرقاع كانت بعد قدوم أبي موسى الأشعري، وقدومه كان وقت إسلام أبي هريرة، وممَّا يدلُّ أيضًا على تأخُّر القصَّة عن قصَّة الإفك ما رواه الطبراني من طريق عبَّاد بن عبد الله بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها، وقد تقدم ذكره قريبًا؛ فافهم، انتهى ما قاله إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري» رحمه الغفور الكريم الباري.


(١) في الأصل: (نزل).
(٢) في الأصل: (فتميموا)، وهو تحريف.
(٣) في الأصل: (فتميموا)، وهو تحريف.
(٤) في الأصل: (فتميموا)، وهو تحريف.

<<  <   >  >>