للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

(قالت) أي: عائشة رضي الله عنها: (فبعثنا) أي: أثرنا (البعير)؛ واحد الإبل من معناها؛ لأنَّ الإبل اسم جمع لا واحد لها من لفظها، بل من معناها، وهي مؤنثة (الذي كنت عليه) راكبة حالة السير مع أُسَيْد بن الحضير، (فأصبنا) وفي رواية ابن عساكر: (فوجدنا) (العِقْد)؛ بكسر العين المهملة، وسكون القاف؛ أي: القلادة (تحته) أي: تحت البعير، وهذا يدل على أنَّ الذي توجَّهوا في حاله أوَّلًا لم يجدوه.

قال إمام الشارحين: (فإن قلت: في رواية عروة في الباب الذي يليه: (فبعث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم رجلًا فوجدها) أي: القلادة، وللبخاري في (فضل عائشة) من هذا الوجه، وكذا مسلم: (فبعث ناسًا من الصحابة في طلبها)، وفي رواية أبي داود: (فبعث أُسَيْد بن حضير ناسًا معه).

قلت: الجمع بين هذه الروايات أنَّ أُسَيْدًا (١) كان رأس المبعوثين لذلك، كما ذكرنا؛ فلذلك سُمَّي في بعض الروايات دون غيره، وكذا أسند الفعل إلى واحد منهم، وهو المراد به، وكأنَّهم لم يجدوا العقد أولًا، فلما رجعوا ونزلت آية التيمم وأرادوا الرحيل وآثاروا البعير؛ وجده أُسَيْد بن حضير، وعلى هذا؛ فقوله في رواية عروة الآتية: (فوجدها) أي: بعد جميع ما تقدم من التفسير، وزعم النووي: أنَّه يحتمل أن يكون فاعل (وجدها) هو النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وقد بالغ الداودي في توهم رواية عروة، ونقل عن إسماعيل القاضي: أنَّه حمل الوهم فيها على عبد الله بن نمير، وقد بان بذلك أن لا تخالف بين الروايتين ولا وهم.

فإن قلت: في رواية عمرو بن الحارث: (سقطت قلادة لي)، وفي رواية عروة الآتية عنها: (أنها استعارت قلادة من أسماء -يعني: أختها- فهلكت) أي: ضاعت، فكيف التوفيق؟

قلت: إضافة القلادة إلى عائشة؛ لكونها في يدها وتصرفها، وإلى أسماء لكونها ملكها؛ لتصريح عائشة بذلك في رواية عروة المذكورة) انتهى كلامه.

قلت: ولا مانع من تعدُّد القصة، فإنَّ الذي في رواية عمرو بن الحارث ظاهر في أنَّ القلادة كانت ملكًا (٢) لعائشة؛ لتصريحها بذلك؛ حيث قالت: (سقطت قلادة لي)، و (اللام) للملك أو الاختصاص، وأنَّ الذي في رواية عروة ظاهر في أنَّها ملك لأسماء، فهما واقعتان؛ لأنَّ ضياع العقد قد تكرر غير مرة كما ذكرنا، ويدل عليه رواية الطبراني، وقد تقدمت، وتمامه فيما قدمناه قريبًا؛ فافهم.

وفي الحديث دليل على أنه يستوي في التيمم الصحيح، والمريض، والمحدث، والجنب، ولم يختلف علماء الأمصار بالعراق، والشام، والمشرق، والمغرب، والحجاز في ذلك، وكان عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما يقولان: الجنب لا يطهره إلا الماء؛ لقوله عز وجل: {وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}، وقوله: {وَلَا جُنُبًا إِلَاّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: ٤٣]، فذهبا إلى أن الجنب لم يدخل في المعنى المراد بقوله: {وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: ٦]، ولم يتعلق بقولهما أحد من الفقهاء؛ للأحاديث الواردة الثابتة في جواز تيمم الجنب، قاله إمام الشارحين.

قلت: ومثل الجنب الحائض والنفساء إذا طهرتا، وقد قال الثقات من النقاد: إنَّه ثبت رجوع عمر وابن مسعود رضي الله عنهما عن ذلك، وصارا يقولان بجواز تيمم الجنب؛ فليحفظ.

وزعم ابن حجر أن في الحديث دليلًا (٣) على جواز الإقامة في المكان الذي لا ماء فيه، وسلوك الطريق الذي لا ماء فيه.

ورده إمام الشارحين: بأن فيه نظرًا (٤)؛ لأنَّ المدينة كانت قريبة منهم، وهم على قصد دخولها، ويحتمل أنه عليه السلام لم يعلم بعدم الماء مع الركب إن كان قد علم بأنَّ المكان لا ماء فيه، ويحتمل أن يكون معنى قوله: (ليس معهم ماء) أي: للوضوء، وأمَّا ما يحتاجون إليه للشرب؛ فيحتمل أنه كان معهم.

قلت: وقدمنا قريبًا ما يتعلق في ذلك، وفي الحديث جواز شكوى المرأة إلى أبيها وإن كان لها زوج، وإنما شكوا إلى أبي بكر؛ لكونه عليه السلام كان نائمًا، وكانوا لا يوقظونه، كذا قالوا، واعترضهم إمام الشارحين: بأنه يجوز أن يكون شكواهم إلى أبي بكر دونه عليه السلام؛ خوفًا على خاطره عليه السلام من تغيره عليها) انتهى.

قلت: ويحتمل أن تكون شكواهم إلى أبي بكر حتى يخبر بها النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، فإن السلطان إذا كان في بلدة وأراد أحد الشكوى على آخر؛ فأولًا يشكو أمره إلى وزيره، والوزير يخبر به السلطان، كما لا يخفى، وفي الحديث دليل على أن الوضوء كان واجبًا عليهم قبل نزول آية الوضوء، ولهذا استعظموا نزولهم على غير ماء، ووقع من أبي بكر في حق عائشة ما وقع، وقال ابن عبد البر معلوم عند جميع أهل المغازي أنَّه عليه السلام لم يصلِّ منذ فرضت الصَّلاة إلا بوضوء، ولا يدفع ذلك إلا جاهل، أو معاند.

فإن قلت: إذا كان الأمر كذلك، ما الحكمة في نزول آية الوضوء مع تقدم العمل به؟

قلت: ليكون فرضه متلوًّا بالتنزيل، ويحتمل أن يكون أول آية الوضوء نزل قديمًا، فعملوا به، ثم نزلت بقيتها؛ وهو ذكر التيمم في هذه القصة، وإطلاق آية التيمم على هذا من إطلاق الكل على البعض، لكن رواية عمرو بن الحارث عن عبد الرحمن بن القاسم في هذا الحديث نزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ..} إلى قوله: {تَشْكُرُونَ} [المائدة: ٦] يدل على أن الآية نزلت جميعها في هذه القصة، وقد يقال: إنَّ الوضوء كان بالسنة لا بالقرآن أولًا، ثم أنزلا معًا، فعبرت عائشة بالتيمم؛ إذ كان هو المقصود.

فإن قلت: ذكر الجاحظ في كتاب «البرصان (٥)» أن الأسلع العرجي الذي كان يرتحل للنبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم قال للنبيِّ عليه السلام يومًا: إني جنب، وليس عندي ماء، فأنزل الله آية التيمم؟

قلت: هذا ضعيف، ولئن صح؛ فجوابه: أنه يحتمل أن تكون قضية الأسلع واقعة في قصة سقوط العقد) انتهى ما قاله إمام الشارحين.

قلت: ويحتمل أن الأسلع لم يبلغه نزول الآية مدة، ثم لما ارتحل إلى النبيِّ الأعظم عليه السلام؛ أخبره بنزولها، فعبر كما سمع والله أعلم.

وفي الحديث دليل على جواز التيمم في السفر وهو بالإجماع، واختلفوا في الحضر، ومذهب الإمام الأعظم: أن التيمم جائز سواء كان مسافرًا أو مقيمًا


(١) في الأصل: (أسيد)، وليس بصحيح.
(٢) في الأصل: (ملك)، وليس بصحيح.
(٣) في الأصل: (دليل)، وليس بصحيح.
(٤) في الأصل: (نظر)، وليس بصحيح.
(٥) في الأصل: (البرهان)، وهو تحريف.

<<  <   >  >>