عين الفعل؛ أي: صار حكيمًا، وصاحب الحكمة: المتقن للأمور، وأما حكَم؛ بفتح عين الفعل؛ فمعناه: قضى، ومصدره حُكم؛ بالضم، والحكم أيضًا: الحكمة من العلم، والحكيم: العالم).
وقال ابن دريد: (كل كلمة وعظتك، أو زجرتك، أو دعتك إلى تكرمة، أو نهتك عن قبيح؛ فهي حكمة)، وقيل: الحكمة: المانعة من الجهل، وقيل: هي النبوة، وقيل: الفهم عن الله تعالى، وقال ابن سيده: (القرآن كفى به حكمة؛ لأنَّ الأمة صارت علماء بعد جهل)، وزعم النووي أنَّ الحكمة فيها أقوال مضطربة، وصفي لنا منها: أنَّ الحكمة عبارة عن العلم المتصف بالأحكام المشتملة على المعرفة بالله تعالى المصحوب بنفاذ البصيرة، وتهذيب النفس، وتحقيق الحق، والعمل به، والصد عن اتباع الهوى والباطل، فالحكيم من حاز ذلك كله) انتهى.
قلت: وهذا قول في معنى الحكمة ملفق من أقوال متباينة، فقوله: (وصفي لنا فيها...) إلخ: غير صحيح، بل هذا مجموع الأقوال في معناها، والأخصر أن يقال: الحكمة: هي امتثال أوامر الله تعالى ونبيه عليه السَّلام، واجتناب نواهي الله تعالى ونبيه عليه السَّلام، قال تعالى: {وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: ٢٦٩]، ولا ريب أن من امتثل الأوامر واجتنب النواهي؛ فقد جمع له بين خيري الدنيا والآخرة، فلهذا وصفه سبحانه من أوتيها بالخير الكثير؛ فليحفظ.
وقال في «التوضيح» : (وفي هذا الحديث دلالة صريحة على أن شرح صدره عليه السَّلام كان ليلة المعراج، وفعل به ذلك؛ لزيادة طمأنينة لما يرى من عظم الملكوت، أو لأنَّه عليه السَّلام يصلي بالملائكة عليهم السلام) انتهى.
(فأفرغه) : من الإفراغ؛ أي: أفرغ كل واحد من الحكمة والإيمان اللذين كانا في الطست (في صدري)؛ فيمتلئ حكمةً وإيمانًا، ولهذا غسله بماء زمزم، والمراد بالصدر: القلب.
فإن قلت: تقدم أنه ذكر في هذا الحديث أنه غسل صدره بماء زمزم وقلبه.
قلت: إنَّما غسله بالثلج أولًا؛ ليثلج اليقين في قلبه، وإنما كان ذلك؛ لأجل دخوله الحضرة القدسية، وقيل: فعل به ذلك في حال صغره؛ ليصير قلبه مثل قلوب الأنبياء عليهم السلام في الانشراح، والثانية؛ لتصير حالته مثل حال الملائكة، انتهى ذكره إمام الشَّارحين.
قلت: ويدل عليه: ما ذكره القرطبي في «تفسيره» : روى الضحاك عن ابن عباس قال: قالوا: يا رسول الله؛ انشرح صدرك؟ قال: «نعم؛ وتفتح»، قالوا: يا رسول الله؛ وهل لذلك علامة؟ قال: «نعم؛ التجافي عن دار الغرور، والإبانة إلى دار الخلود، والاعتداد للموت قبل نزول الموت»، وفي «الصحيح» عن أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة: أنَّ النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «بينما أنا عند البيت بين النائم واليقظان؛ إذ سمعت قائلًا يقول: أحد الثلاثة... ، فأتيت بطست من ذهب فيها ماء زمزم، فشرح صدري إلى كذا وكذا»، قال قتادة: يعني: قال إلى أسفل بطني، قال: «فاستخرج قلبي، فغسله بماء زمزم، ثم أعيد مكانه؛ ثم حشي إيمانًا وحكمةً»، وروي عن النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «جاءني ملكان في صورة طائر معهما ماء وثلج، فشرح أحدهما صدري، وفتح الآخر منقاره، فغسله»، وفي حديث آخر: «جاءني ملك فشق عن قلبي، فاستخرج منه عذرة...»؛ الحديث، انتهى.
قلت: وهذا يدل على تعدد القصة، وأنه في هذه القصة لم يكن جبريل الجائي، بل غيره، وفيها أيضًا أنه شق قلبه، وهو يدل على أنَّ المراد بالصدر: القلب؛ لأنَّ غسل القلب وتنقيته مما ينافي النبوة يسلتزم شرح الصدر، وفيه أنَّ الذي جاءه ثلاثة من الملائكة، وصرح في هذه الرواية أن شرح صدره كان من أعلى الصدر إلى أسفل البطن حتى يدخل القلب في الغسل، ولا ريب أنَّ هذا دالٌّ على تعدد القصة، والله تعالى أعلم.
(ثم أطبقه)؛ أي: ثم أطبق صدره، يقال: أطبقت الشيء؛ إذا غطيته وجعلته مطبقًا، وفي «التوضيح» : (لما فعل به ذلك؛ ختم عليه كما يختم على الوعاء المملوء، فجمع الله له أجزاء النبوة وختمها؛ فهو خاتم النبيين، وختم عليه فلم يجد عدوه إليه سبيلًا من أجل ذلك؛ لأنَّ الشيء المختوم محروس، وقد جاء أنه استخرج منه علقة، وقال: هذا حظ الشيطان منك).
وذكر القاضي عياض: (أن موضع الخاتم إنَّما هو شق الملكين بين كتفيه)، ذكره القرطبي وقال: (هذه غفلة؛ لأنَّ الشق إنَّما كان في صغره حين لم يبلغ في السن حتى نفذ إلى ظهره)، وروى أبو داود الطيالسي، والبزار، وغيرهما من حديث عروة عن أبي ذر رضي الله عنه ولم يسمع منه في حديث الملكين: «قال أحدهما لصاحبه: اغسل بطنه غسل الإناء، واغسل قلبه غسل الملاء، ثم خاط بطني، وجعل الخاتم بين كتفي كما هو الآن»، وهذا دال مع حديث البخاري كما نبه عليه القرطبي، وأنه في الصدر دون الظهر، وإنما كان الخاتم في ظهره؛ ليدل على ختم النبوة به، وأنه لا نبي بعده، وكان تحت بعض كتفه؛ لأنَّ ذلك الموضع منه يوسوس الشيطان، ذكره إمام الشَّارحين في «عمدة القاري»، وذكر الإمام حافظ النسفي نقلًا عن الكلبي: (أن جبريل عليه السَّلام أتاه عليه السَّلام، فشق صدره، وأبدى عن قلبه، ثم جاء بدلو من ماء زمزم فغسله وأنقاه مما فيه، ثم جاء بطست من ذهب قد ملئ علمًا وإيمانًا، فوضعه فيه، ثم قال: كان هذا حين جاءه بالبراق ليلة المعراج، أو حين كان عند حليمة في السنة التي أعادته فيها إلى عبد المطلب) انتهى.
قلت: وهذا تأييد لقول من قال بتعدد القصة كما سبق، لكن القاضي عبد الجبار قد طعن في هذه الرواية من وجوه؛ أحدها: أنه قد روى أن هذه الواقعة وقعت في حال صغره عليه السَّلام، وهي من المعجزات، فلا يجوز أن تتقدم نبوته، وثانيهما: أن تأثير الغسل في إزالة الأجسام ولا شك أنَّ الأخلاق والمعاصي ليسا من قبيل الأجسام، فلا يؤثر فيهما الغسل، وثالثهما: أنَّ القلب لا يصح أن يملأ علمًا وإيمانًا، بل الله تعالى يخلقهما في القلب.
وأجيب عن الأول: بأن تقديم المعجزة عن البعثة يجوز عندنا، وذلك هو المسمى بالإرهاص، ومثله كثير في حقه عليه السَّلام.
وعن الثاني في قوله: (أن الغسل له تأثير في إزالة