للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

الأجسام) : بأن ما في القلب من الدم الأسود لا يبعد أن يكون حصوله فيه علامة مؤذية للقلب إلى ميله إلى المعاصي، وإبعاده عن الطاعات، وتكون إزالته عنه سببًا لمواظبة صاحبه على الطاعات، واحترازه عن الشهوات المنبعثة عن توجه القوة الطبيعية إليها، فتكون إزالته عنه مسلتزمة؛ لامتلائه بالعلم والإيمان، فصح أن يعبر عن تطهير قلبه عليه السَّلام من ذلك الدم بامتلائه بالعلم والإيمان، فالمراد بما روي ظاهره هذا، بل هو رمز إلى توسيع الصدر وتفسيحه.

قلت: ويجاب عن الثالث: بأن إملاءه العلم والإيمان يصح أن يكون بواسطة جبريل عليه السَّلام، ويدل عليه: أن جبريل كان ينزل على النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم بالوحي من الله عز وجل، فلو لم يصح هذا يلزم التعطيل في النبوة، وهو محال، ويؤيده قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى: ٧]؛ يعني: وجدك ضالًّا عن الحكم والإحكام، فعلمك بالوحي والإلهام، والمراد: وجدك غافلًا عن علوم النبوة والأحكام الشرعية، فهداك إليها؛ كقوله تعالى: {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ} [الشورى: ٥٢]، ولا ريب أن معرفة هذا يحتاج إلى واسطة جبريل عليه السَّلام، والله تعالى أعلم بالصواب.

(ثم أخذ بيدي)؛ أي: جبريل، ويحتمل أنه أخذه من اليدين جميعًا، ويحتمل أنه أخذه من اليد الواحدة، فإن لفظ (بيدي) يحتمل المعنيين، لكن الظاهر الثاني؛ لأنَّه المتعارف في اللغة؛ فافهم، (فعرج بي) وفي رواية: (فعرج به)؛ بضمير الغائب، وهو من باب التجريد، فكأنه عليه السَّلام جرد من نفسه شخصًا، وأشار إليه، وفيه وجه آخر: وهو أنَّ الراوي نقل كلامه بالمعنى لا بلفظه بعينه، قاله إمام الشَّارحين.

قلت: ونقل الراوي بالمعنى صحيح جائز لمن كان متقنًا لاسيما الراوي المذكور، وزعم ابن حجر أن فيه التفاتًا، ورده إمام الشَّارحين: بأنه غير صحيح، وإنما هذا من التجريد، كما ذكرناه، والعروج: الصعود، يقال: عرَج يعرُج عروجًا، من باب (نصر ينصر)، وقال ابن سيده: (عرج في الشيء، وعليه يعرُج، ويعرِج عروجًا: رقى، وعرج الشيء وهو عريج: ارتفع وعلا، والمعراج؛ بالكسر: شبه مفعال، من العروج؛ كأنه آلة له، فالمعراج: شبه سلَّم تعرج عليه الأرواح، وقيل: هو حيث تصعد عليه أعمال بني آدم) انتهى.

(إلى السماء) : وهي كل ما علاك فأظلك، وهذا يدل على رسالة نبينا النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وكذا نزول جبريل عليه السَّلام وعلى خصوصية بأمور لم يعطها أحد غيره عليه السَّلام، فجبريل هو الذي ينزل عليه عليه السَّلام من عند الله، وبأمره عز وجل، فإنه كان واسطة الوحي، ويفهم من قوله: (ثم أخذ بيدي) : أنَّ المعراج وقع غير مرة؛ لكون الإسراء إلى بيت المقدس لم يذكر ههنا، كذا قاله بعضهم، وزعم ابن حجر أنه يمكن أن يقال: هو من باب اختصار الراوي، ورده إمام الشَّارحين فقال: (هذا غير مقنع؛ لأنَّ الراوي لا يختصر ما سمعه عمدًا) انتهى.

ثم قال إمام الشَّارحين: (والذي يفهم من ترتيب البخاري ههنا أنَّ الإسراء والمعراج واحد؛ لأنَّه قال أولًا: كيف فرضت الصلاة في الإسراء؟ ثم أورد الحديث، وفيه: «ثم عرج بي إلى السماء»، وظاهر إيراده في «أحاديث الأنبياء» عليهم السلام يقتضي أنَّ الإسراء غير المعراج، فإنه ترجم للإسراء ترجمة، وأخرج فيها حديثًا، ثم ترجم للمعراج ترجمة، وأخرج فيها حديثًا) انتهى.

(فلما جئت) أي: وصلت (إلى السماء الدنيا) وهي السماء الأولى، و (الدُّنيا)؛ بضم الدال المهملة، من الدنوِّ، أوهو القرب، وسميت بذلك؛ لدنوها؛ أي: قربها من الآخرة، وروى ابن حبان في «صحيحه» مرفوعًا: «بين السماء والأرض مسيرة خمس مئة عام»، وذكر في كتاب «العظمة» لأبي سعيد أحمد بن محمد بن زياد الأعرابي، عن عبد الله قال: «ما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمس مئة عام، وبين السماء إلى السماء التي تليها مثل ذلك، وما بين السماء السابعة إلى الكرسي كذلك، والماء على الكرسي، والعرش على الماء».

وقال ابن أبي شيبة أبو جعفر محمد بن عثمان في كتابه «العرش» بإسناده إلى العباس قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «هل تدرون كم بين السماء والأرض؟» قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: «بينهما خمس مئة عام، وكثف كل سماء خمس مئة سنة، وفوق السماء السابعة بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض»، وروي أيضًا عن أبي ذر مرفوعًا مثله، كذا في «عمدة القاري».

(قال جبريل لخازن السماء)؛ أي: حافظها الموكل بها.

فإن قلت: كيف يتصور الصعود إلى السموات وما فوقها بالجسم الإنساني؟

قلت: أجيب: بأن الأرواح أربعة أقسام:

الأول: الأرواح الكدرة بالصفات البشرية، وهي أرواح العوام غلبت عليها القوى الحيوانية، فلا تقبل العروج أصلًا.

والثاني: الأرواح التي لها كمال القوة النظرية للبدن باكتساب العلم، وهذه أرواح العلماء.

والثالث: الأرواح التي لها كمال القوة المدبرة للبدن باكتساب الأخلاق الحميدة، وهذه أرواح المرتاضين إذا كسروا؛ قوَّى أبدانهم بالارتياض والمجاهدة.

والرابع: الأرواح التي حصل لها كمال القوتين، وهذه غاية الأرواح البشرية، وهي الأنبياء عليهم السلام الصديقون، فكلما ازدادت (١) قوة أرواحهم؛ ازداد ارتفاع أبدانهم من الأرض، ولهذا لما كان الأنبياء عليهم السلام قويت فيهم هذه الأرواح؛ عرج بهم إلى السماء، وأكملهم قوة نبينا النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فعرج به إلى قاب قوسين أو أدنى، كذا قرره إمام الشَّارحين.

(افتح)؛ أي: افتح الباب، وفي رواية شريك عند المؤلف: (فضرب بابًا من أبوابها)، وهذا يدل على أنَّ الباب كان مغلقًا، والحكمة أنَّ السماء لم تفتح إلا لأجله بخلاف ما لو وجده مفتوحًا، وهذا يدل أيضًا على أن عروجه عليه السَّلام كان بجسده؛ إذ لو لم يكن بجسده؛ لما استفتح، قاله إمام الشَّارحين، ففي الحديث أن للسماء أبوابًا حقيقية، وحفظة موكلين بها، (قال)؛ أي: الخازن (من هذا)؛ بفتح الميم؛ أي: من هذا الذي يقرع الباب؟ (قال: جبريل) ولغير أبي ذر: (قال: هذا جبريل)، ففيه إثبات الاستئذان، وأن يقول: فلان، ولا يقول: أنا، كما نهي عنه في حديث جابر، ولأنه لا فائدة فيه؛ لبقاء الإبهام، فإذا استأذن أحد بدق الباب ونحوه، فإذا قيل له: من أنت؟؛ يقول:


(١) في الأصل: (ازداد)، وهو تحريف.

<<  <   >  >>