بعيني»، وقال أنس، والحسن، وعكرمة: رأى محمد صلَّى الله عليه وسلَّم ربه بعين رأسه، وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال: (إن الله اصطفى إبراهيم بالخلة، واصطفى موسى بالكلام، واصطفى محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّم بالرؤية).
واعلم أن رؤية الله تعالى في الدنيا جائزة؛ لأنَّ دليل الجواز غير مخصوص برؤيته في الآخرة، ولأن مذهب أهل السنة: أن الرؤية بالإراءة لا بقدرة العبد، فإذا حصل العلم بالشيء من طريق البصر؛ كان رؤية بالإراءة، وإن حصل من طريق القلب؛ كان معرفة، فالله تعالى قادر على أن يحصل مدرك العلوم في البصر، كما قدر على أن يحصل مدرك العلوم في القلب، والمسألة مختلف فيها بين الصحابة، والاختلاف في الوقوع مما ينبئ عن الاتفاق على الجواز، والله أعلم.
(ثم أُدخلت الجنة)؛ بضم الهمزة؛ أي: قال النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: ثم أدخلني جبريل الجنة، وهي جنة المأوى، وسميت بذلك؛ لأنَّه يأوي إليها المتقون، أو أرواح الشهداء، وقال إمام الشَّارحين: (وقوله عليه السَّلام: «ثم أدخلت الجنة» يدل على أن سدرة (١) المنتهى ليست في الجنة)، وقال ابن دحية: كلمة (ثم) في هذا الحديث في مواضع ليست للترتيب، كما في قوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد: ١٧]، وإنما هي مثل (الواو) للجمع والاشتراك، فهي بذلك خارجة عن أصلها، انتهى.
(فإذا فيها)؛ أي: في الجنة، وكلمة (إذا) هنا والتي في قوله: (فإذا ترابها) للمفاجأة (حبائل اللؤلؤ)؛ بالحاء المهملة، ثم الموحدة، وبعد الألف مثناة تحتية ساكنة، ثم لام، كذا وقع لجميع رواة البخاري، وذكر جماعة منهم: أنه تصحيف، وإنما هو (جنابذ)؛ بالجيم والنون، وبعد الألف موحدة، ثم ذال معجمة، كما وقع عند المصنف في (أحاديث الأنبياء) من رواية ابن المبارك وغيره عن يونس، وكذا عند غيره من الأئمة، وقال ابن الأثير: (إن صحت رواية «حبائل»؛ فيكون أراد به مواضع مرتفعة؛ كحبال الرمل، كأنه جمع حبالة، وحبالة جمع حبل على غير قياس)، وفي رواية الأصيلي عن الزهري: (دخلت الجنة، فرأيت فيها جنابذ من اللؤلؤ)، وقال ابن قرقول: كذا لجميعهم: (حبائل)، ومن ذهب إلى صحة الرواية؛ قال: إن الحبائل: القلائد والعقود، أو يكون من حبال الرمل؛ يعني: فيها اللؤلؤ؛ كحبال الرمل، وهو جمع حبل؛ وهو الرمل المستطيل، أو من الحبلة: وهو ضرب من الحلي معروف، وقال صاحب «التلويح» : (وهذا كله تخيل ضعيف، بل هو بلا شك تصحيف من الكاتب)، والحبائل إنَّما تكون جمع: حبالة أو حبيلة، والجنابذ جمع: الجُنبُذ؛ بضم الجيم، وسكون النون، وبالموحدة المضمومة، وبالذال المعجمة: وهو ما ارتفع من الشيء واستدار؛ كالقبة، والعامة تقول: بفتح الموحدة، والأظهر أنه فارسي معرب.
قلت: هو في لسان العجم؛ كُنْبَذ؛ بضم الكاف: الصماء، وسكون النون، وفتح الموحدة: وهي القبة، كذا قرره إمام الشَّارحين.
(وإذا ترابها المسك)؛ أي: تراب الجنة رائحته كرائحة المسك، وأخرج الطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «رأيت إبراهيم ليلة أسري بي، فقال: يا محمد؛ أقرئ أمتك السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، وأنها قيعان، وغراسها: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم»، وفي الحديث: أنه عليه السَّلام قال: «إن ريح الجنة يوجد من مسيرة خمس مئة عام، ولا يجد ريحها عاق»، قال تعالى: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ} : فإنَّهم أخف في الخدمة {مُّخَلَّدُونَ} : دائمون على ما هم عليه من الشباب والفضاضة في الحسن، فإنَّهم لا يهرمون ولا يتغيرون، ويكونون على سن واحد على مر الأزمنة {إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا} [الإنسان: ١٩] : من صفاء ألوانهم، وانبثاثهم في مجالسهم، وانعكاس شعاع بعضهم إلى بعض، فإن المتفرق أحسن من المنظوم؛ ليظهر لمعانه وبريقه، عليهم ثياب الحرير الخضر ما رق منها وما غلظ، وفي الحديث: «أدنى أهل الجنة منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه»، وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: إذا توجه أهل الجنة إلى الجنة؛ مروا بشجرة يخرج من تحت ساقها عينان، فيشربون من أحدهما، فترى عليهم نضرة النعيم، فلا تتغير أبشارهم، ولا تشعث شعورهم أبدًا، ثم يشربون من الآخر، فيخرج ما في بطونهم من الأذى؛ كالغل، والحسد، والقذر، والغش، ثم تستقبلهم خزنة الجنة، فيقولون لهم: سلام عليكم طبتم، فادخلوها خالدين، اللهم؛ اجعلنا منهم.
ويستنبط من الحديث أمور:
أحدها: أن جبريل عليه السَّلام هو الذي كان ينزل على النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم من عند الله وبأمره.
الثاني: أن فيه الاستئذان وبيان الأدب فيما إذا استأذن أحد بدق الباب ونحوه، فإذا قيل له: من أنت؟ يقول: زيد مثلًا، ولا تقول: أنا، إذ لا فائدة فيه؛ لبقاء الإبهام، كذا قالوا، قال إمام الشَّارحين: قلت: لكن لا يقتصر على قوله: زيد مثلًا؛ لأنَّ المسمى بزيد كثير، فيشتبه عليه، بل يذكر الشيء الذي هو مشهور به بين الناس.
الثالث: أن رسول الرجل يقوم مقام إذنه؛ لأنَّ الخازن لم يتوقف عن الفتح له على الوحي إليه بذلك، بل عمل بلازم الإرسال إليه.
الرابع: علم منه أن للسماء أبوابًا حقيقة، وحفظة موكلين بها.
الخامس: أنه علم أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من نسل إبراهيم؛ حيث قال: (والابن الصالح) بخلاف غيره من الأنبياء المذكورين فيه، فإنَّهم قالوا: (الأخ الصالح).
السادس: فيه جواز مدح الإنسان في وجهه إذا أمن عليه الإعجاب وغيره من أسباب الفتن.
السابع: أن فيه شفقة الوالد على ولده، وسروره بحسن حاله، وسوءه بسوء حاله.
الثامن: فيه أن أرواح بني آدم من أهل الجنة والنار في السماء، وقد مضى الكلام فيه.
التاسع: فيه أن الجنة والنار مخلوقتان، وأن الجنة في السماء.
العاشر: فيه استدل بعضهم على جواز تحلية المصحف وغيره بالذهب، ورده إمام الشَّارحين: بأنَّ هذا الاستدلال بعيد؛ لأنَّ ذلك إنَّما كان فعل الملائكة واستعمالهم، وليس بلازم أن يكون حكمهم كحكمنا، ويحتاج أيضًا إلى ثبوت كونهم مكلفين بما كلفنا به، ومع هذا كان هذا على أصل الإباحة، وتحريم النقدين كان بالمدينة.
الحادي عشر: فيه وجوب الصلوات الخمس، والباب معقود لهذا، وقال ابن بطال:
(١) في الأصل: (السدرة)، ولعل المثبت هو الصواب.