لا، والإلحاح في الطلب من الله تعالى مطلوب؟) انتهى.
قلت: يدل عليه قوله عليه السَّلام: «إن الله يحب الملحِّين في الدعاء...»؛ الحديث، وقد اختلط على ابن حجر رواية الباب، ورواية مالك، فخبط، وقال ما قال؛ فافهم.
(ثم انطلق بي)؛ بفتح الطاء المهملة واللام، وسقط لفظة (بي) في رواية، والمراد بالفاعل الغائب المستتر في (انطلق) : هو جبريل عليه السَّلام (حتى انتهى بي)؛ أي: جبريل (إلى السدرة المنتهى) كذا للأربعة، وفي رواية: (إلى سدرة المنتهى)، والسِدْر؛ بكسر السين المهملة، وسكون الدال المهملة: هو شجر النبق، واحدته سدرة، وجمعها سدر وسدور، الأخيرة نادرة، وقال ابن زياد: (السدر: من العضاه، وهو لونان، فمنه عنبري، ضال خف، فأما العنبري؛ فما لا شوك فيه إلا ما لا يضير، وأما الضال خف؛ فهو ذو شوك، وللسدر ورقة عريضة مدورة، وربما كانت السدرة محلالًا، قال: وورق الضال خف صغار، وهو أجود نبق يعلم بأرض العرب نبق بهجر في بقعة واحدة، يحمى للسلطان وهو أشد نبق يعلم حلاوة وأطيبه رائحة، يفوح فم آكله كما يفوح العطر، وفي «نوادر الهجري» : (السدر: يطبخ، ويصبغ به)، وتجمع السدرة على سدْرات؛ بإسكان الدال المهملة، ويقال: بفتحها، ويقال: بكسرها مع كسر السين فيها، كذا في «عمدة القاري».
قلت: والمراد بها شجرة الصنوبر.
قال إمام الشَّارحين: (وهي فوق السماء السابعة)، وقال الخليل: (هي في السماء السابعة، قد أظلت السموات والجنة)، وفي رواية مسلم: (أنها في السماء السادسة)، والأول أكثر، ويحمل على أن أصلها في السادسة، ومعظمها في السابعة، وزعم عياض أن أصلها في الأرض؛ لخروج النيل والفرات من أصلها، انتهى.
قلت: وليس هذا بلازم، بل معناه: أن الأنهار تخرج من أصلها، ثم تسير حيث أراد الله تعالى حتى تخرج من الأرض، وتسير فيها، وورد: (أن من أصلها يخرج أربعة أنهار؛ نهران باطنان، ونهران ظاهران، فالباطنان: السلسبيل والكوثر، والظاهران: النيل والفرات)، وعن ابن عباس: (أنها عن يمين العرش)، وإنما سميت بـ (المنتهى)؛ لأنَّها أسفل العرش، لا يجاوزها ملك ولا نبي؛ يعني: بل ينتهي إليها، وفي الأثر: إليها ينتهي ما يعرج من الأرض، وما ينزل من السماء، فيفيض منها، وقيل: ينتهي إليها علم كل ملك مقرب ونبي مرسل، وقال كعب: (وما خلفها غيب لا يعلمه إلا الله)، وقيل: ينتهي إليها أرواح الشهداء، وقيل: إن أرواح المؤمنين تنتهي بها إليها، فيصلي عليها هناك الملائكة المقربون، انتهى ما قاله إمام الشَّارحين.
(وغشيها)؛ أي: قال النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: «وغشيها»؛ يعني: سدرة المنتهى (ألوان، لا أدري ما هي) واختلف فيما يغشاها؛ فقيل: يغشاها الملائكة حتى تغطى السدرة، وقيل: يغشاها فراش من ذهب، أو جراد من ذهب، أو هو الملائكة الذين يعبدون الله عندها، وقيل: بل يغشاها أنوار الله تعالى؛ لأنَّ النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لما وصل إليها؛ تجلى ربه لها كما تجلى للجبل، فظهرت الأنوار الإلهية عليها، لكن السدرة كانت أقوى من الجبل وأثبت، فجعل الجبل دكًّا ولم تتحرك الشجرة، وخر موسى صعقًا، ولم يتزلزل النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وروي عنه عليه السَّلام أنه قال: رأيت على كل ورقة من أوراقها ملكًا قائمًا يسبح الله تعالى، وفي إبهام ما يغشاها تعظيم وتكثير لما يغشاها من الخلائق، والغشيان يكون بمعنى: التغطية والستر، ويكون بمعنى: الإتيان أيضًا، قيل: وهو المناسب ههنا؛ فتأمل.
فإن قلت: العالم العلوي ليس فيه شيء مما هو في هذا العالم، فلا يكون فيه شجرة النبق، وهي شجرة الصنوبر، فما وجه قوله: (إلى سدرة المنتهى)؟
قلت: أجيب: بأن شجرة النبق لما كان لها ظل مديد، وطعم لذيذ، ورائحة زكية؛ شبهت بها شجرة المنتهى، فأطلق عليها اسم السدرة على سبيل الاستعارة؛ فليحفظ.
وقال مقاتل: (السدرة: هي شجرة طوبى، ولو أن رجلًا ركب هجينه وطاف على ساقها حتى أدركه الهرم؛ لما وصل إلى المكان الذي ركب منه، تحمل لأهل الجنة الحلي والحلل، وجميع ألوان الثمر)، وقيل: هي شجرة غير طوبى ثابتة في يمين العرش فوق السماء السابعة، تخرج أنهار الجنة من أصلها، كما قدمناه، وإضافة السدرة إلى المنتهى يحتمل أن تكون من قبيل إضافة الشيء إلى مكانه؛ كقولك: شجرة بلدة كذا، ومكان كذا، فالمنتهى حينئذٍ موضع لا يتعداه ملك أو نبي، كما ذكرناه؛ فتأمل، وجمهور المفسرين على أن النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لما رجع من عند ربه عز وجل ليلة الإسراء؛ رأى جبريل على صورته عند سدرة المنتهى، وقال عليه السَّلام: «رأيته عند سدرة المنتهى، وعليه ست مئة جناح يتناثر منها الدر والياقوت»، وهي مقام جبريل عليه السَّلام، أمَّ فيها النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم ملائكة السماءكلها؛ فكان إمام الأنبياء في بيت المقدس، وإمام الملائكة عند سدرة المنتهى، فظهر بذلك فضله على أهل السماء والأرض، وقالت عائشة رضي الله عنها: (من حدث أن محمدًا رأى ربه؛ فقد كذب، ثم قرأت: {لَا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام: ١٠٣]، {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَاّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى: ٥١])، وقالت: (إن المرئي في قوله تعالى: {مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: ١١] : هو صورة جبريل)؛ حيث قالت: (ولكنه رأى جبريل في صورته مرتين)، ووافقها ابن مسعود رضي الله عنه، وقال كعب الأحبار: (إن النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم رأى ربه مرة أخرى، فإن الله كلم موسى مرتين، وأدنى محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّم مرتين)، وتبعه جماعة كثيرة من المفسرين، وقالوا: إن المرئي هو الله تعالى، وإنه عليه السَّلام رأى ربه.
واختلفوا في أنه عليه السَّلام هل رأى ربه بقلبه أو بعين رأسه؟
فقال بعضهم: جعل بصره في فؤاده فرآه بفؤاده، وهو قول عبد الله بن عباس، فقال: (رآه بفؤاده مرتين)، ويدل عليه أنه عليه السَّلام قال: «رأيته بفؤادي، ولم أره