للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

وقوع هذا التردد والمراجعة من النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم وبين موسى كليم الله عليه السَّلام؟

قلت: كانا يعرفان أنَّ الأولى غير واجب قطعًا، فلو كان واجبًا قطعًا؛ ما كان يقبل التخفيف، ولا كان النبيان العظيمان يفعلان ذلك) انتهى كلامه.

(فرجعت إليه)؛ أي: إلى موسى عليه السَّلام، وفي الكلام حذف؛ تقديره: فقلت لموسى: وضع ربي شطرها عني وعن أمتي، (فقال)؛ أي: موسى: (ارجع إلى ربك)؛ أي: إلى الموضع الذي ناجيته فيه، (فإن أمتك لا تطيق ذلك)، فاسأله التخفيف، (فراجعته)؛ أي: ربي سبحانه وتعالى، (فقال) الله عز وجل: (هن) وفي رواية: (هي) (خمس)؛ يعني: خمس صلوات مفروضات في العمل من جهة العدد في الفعل، والضمير فيه وفي تاليه مبهم يفسره الخبر؛ كقوله:

هي النفس ما حملتها تتحمل... . . . . . . . . . . . . .

(وهن) وفي رواية أبي ذر كالأولى: (هي) (خمسون)؛ يعني: باعتبار الثواب؛ لأنَّ كل حسنة بعشرة أمثالها، كما في النص القرآني، وكان الفرض في الأول خمسين، ثم إنَّ الله تعالى رحم عباده وجعله خمسًا (١)؛ تخفيفًا لنا، ورحمة علينا، ثم هذا هل هو نسخ أم لا؟ فاستدل قوم بالنقص على أنه يجوز نسخ العبادة قبل العمل بها، وأنكر النحاس هذا القول من وجهين:

أحدهما: البناء على أصله، ومذهبه: أن العبادة لا يجوز نسخها قبل العمل بها؛ لأنَّ ذلك عنده من البداء، والبداء على الله محال.

الثاني: أن العبادة وإن جاز نسخها قبل العمل بها عند من يراه؛ فليس يجوز عند أحد نسخها قبل هبوطها إلى الأرض ووصولها إلى المخاطبين، قال: وإنما ادعى النسخ فيها الكاشاني؛ ليصح بذلك مذهبه في أن البيان لا يتأخر، قال النحاس: (وهذا إنَّما يسمى شفاعة شفعها النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لأمته، ومراجعته التي راجعها ربَّه؛ ليخفف عن أمته، ولا يسمى نسخًا) انتهى.

واعترضه السهيلي فقال: وقول النحاس: (وذلك بداء) : ليس بصحيح؛ لأنَّ حقيقة البداء أن يبدو للآمر رأي يتبين الصواب فيه بعد إن لم يكن تبينه، وهذا محال في حق الله عز وجل، والذي يظهر أنه نسخ ما وجب على النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم من أدائها، ورفع عنه استمرار العزم واعتقاد الوجوب، وهذا نسخ على الحقيقة نسخ عنه ما وجب عليه من التبليغ، فقد كان في كل مرة عازمًا على تبليغ ما أمر به، ومراجعته وشفاعته لا تنفي النسخ؛ لأنَّ النسخ قد يكون عن سبب معلوم، فشفاعته عليه السَّلام كانت سببًا للنسخ لا مبطلة لحقيقته، ولكن المنسوخ ما ذكرناه من حكم التبليغ الواجب عليه قبل النسخ وحكم الصلوات في خاصته، وأما أمته؛ فلم ينسخ عنهم حكم؛ إذ لا يتصور نسخ الحكم قبل وصوله إلى المأمور، والوجه الثاني: أن يكون هذا خبرًا لا تعبدًا، فإذا كان خبرًا؛ لا يدخله النسخ، ومعنى الخبر: أنه عليه السَّلام أخبره ربه أن على أمته خمسين صلاة؛ ومعناه: أنها في اللوح المحفوظ خمسون، فتأولها عليه السَّلام على أنها خمسون بالفعل، فبينها له ربه عز وجل عند مراجعته أنها في الثواب لا في العمل) انتهى ذكره إمام الشَّارحين.

ثم قال: (فإن قلت: ما معنى نقص الصلاة عشرًا بعد عشر؟

قلت: أجيب: بأنه ليس كل الخلق يحضر قلبه في الصلاة من أولها إلى آخرها، وقد جاء أنه يكتب له ما حضر قلبه منها، وأنه يصلي فيكتب له نصفها ربعها حتى انتهى إلى عشرها، ووقف، فهي خمس في حق من يكتب له عشرها، وعشر في حق من يكتب له أكثر من ذلك، وخمسون في حق من كملت صلاته بما يلزم من تمام خشوعها، وكمال سجودها وركوعها) انتهى.

ثم قال رحمه الله تعالى: (واستدل الشافعي به على عدم وجوب صلاة الوتر حيث عين الخمس.

قلنا: نحن إنَّما نقول: لم يجب الوتر في ذلك، وإنما كان وجوبه بعد ذلك بقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إن الله زادكم صلاة؛ ألا وهي الوتر...»؛ الحديث، فلذلك انحطت درجته عن الفرض؛ لأنَّ ثبوت الفرض الخمس بدليل قطعي) انتهى.

وأما ثبوت الواجب؛ فبدليل ظني لكن قد كثرت الأحاديث الصحاح في صلاة الوتر؛ منها: قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «الوتر حق، فمن لم يوتر؛ فليس مني» قالها ثلاثًا، ومواظبة النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، كل ذلك يدل على الوجوب، ويثبت به الواجب، بل هذه الأحاديث تفيد الفرضية، وهو رواية عن إمامنا الأعظم، والصحيح عنه أنه واجب، وقال الإمامان أبو يوسف ومحمد: إنه سنة، ووفق المتأخرون: بأنه فرضٌ عملًا، واجبٌ اعتقادًا، سنةٌ ثبوتًا، وتمامه في شرحنا «منهل الطلاب»، والله أعلم بالصواب.

قال الله تعالى: (لا يبدل القول لدي)؛ يعني: لا يبدل الإخبارات -مثل: أن ثواب الخمس خمسون- لا التكليفات، أو لا يبدل القضاء المبرم لا القضاء المعلق الذي يمحو الله ما يشاء منه ويثبت منه، أو معناه: لا يبدل القول بعد ذلك، كذا قاله إمام الشَّارحين.

(فرجعت إلى موسى) عليه السَّلام، فأخبرته بما وقع، والظاهر: أنه لم يخبره بقوله تعالى: (لا يبدل القول لدي)، يدل عليه قوله: (فقال)؛ أي: موسى له (راجع ربك) وللأصيلي: (ارجع إلى ربك)؛ لأنَّه لو أخبره بما قال؛ لما قال له: راجع ربك، واسأله التخفيف، ويحتمل أنه أخبره، لكن لما علم أن النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم مكرم على ربه معظم؛ ظن أن يوضع عنه منها أيضًا؛ فتأمل.

(فقلت) : ولأبي ذر: (قلت)؛ أي: لموسى: إني (استحييت) وللأصيلي: (قد استحييت) (من ربي) ووجه استحيائه من ربه أنه لو سأل الرفع بعد الخمس؛ لكان كأنه قد سأل رفع الخمس بعينها، فلذلك استحى عن أن يراجع ربه بعد ذلك، ولا سيما سمع من ربه: (لا يبدل القول لدي) بعد قوله: (هن خمس، وهن خمسون).

فإن قلت: لم لا يجوز أن يكون معنى قوله تعالى: (لا يبدل القول لدي) : لا ينقص عن الخمس، ولا يبدل إلى أقل من ذلك؟

قلت: أجيب: بأنه لا يناسب لفظ قوله عليه السَّلام: «استحييت من ربي»، كذا في «عمدة القاري»، وزعم ابن حجر أن سبب الاستحياء أن العشرة آخر جمع القلة، وأول جمع الكثرة، فخشي أن يدخل في الإلحاح في السؤال، ورده إمام الشَّارحين فقال: (هذا ليس بجواب في رواية هذا الباب، وأما في رواية مالك بن صعصعة وشريك: «فوضع عني عشرًا»؛ ففيه إلحاح؛ لأنَّ السؤال قد تكرر، وكيف


(١) في الأصل: (خمس)، والمثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>