للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

والمبيح في الركبة، فيقدم المحرم، وروى الدارقطني مرفوعًا: «عورة الرجل ما تحت السرة إلى ركبتيه»، فإن فيه جعل الركبة غاية، وقد احتمل دخولها وعدمه، والاحتياط في الدخول، فتدخل، كذا في «شرح المنية».

وبدن الحرة كلها عورة إلا وجهها وكفيها وقدميها، كذا في «القدوري»، فإن وجهها وكفيها وقدميها ليس بعورة بالإجماع لا في حق الصلاة ولا في حق نظر الأجنبي، حتى إن الأجنبي يباح له النظر إلى وجهها وكفيها وقدميها إذا كان بغير شهوة، وأما ذراع الحرة؛ فظاهر الرواية عن أئمتنا الأعلام: أنه عورة، وفي رواية عن الإمام الأعظم: أن ذراعيها ليسا بعورة، فلو انكشف ذراعاها (١) في الصلاة؛ لا تفسد، كما في «الاختيار»، وصحح بعضهم: أنه عورة في الصلاة لا خارجها، كما في «فتح القدير»، وقال في «المجتبى» : (الذراع لا يمنع الصلاة، لكن يكره كشفه؛ ككشف القدم)، كما في «القهستاني»، فأفاد أن القدم ليس بعورة، وهو الأصح، كما في «المحيط» و «الهداية»، وقيل: إنه عورة، وصححه الأقطع، وفي «الاختيار» : (الصحيح أن القدم ليس بعورة في الصلاة، وعورة خارجها)، وفي «الحلية» : (الصحيح أنه عورة مطلقًا)، فالأقوال ثلاثة مصححة، وقال القدوري: (وما كان عورة من الرجل؛ فهو عورة من الأمَة، وبطنها وظهرها عورة، وما سوى ذلك من بدنها؛ فليس بعورة) انتهى.

ومثل الأمَة القنَّة، وأم الولد، والمدبرة، والمكاتبة، والمستسعاة عند الإمام الأعظم، وقال الصاحبان: المستسعاة حرة، والمراد بالمستسعاة: معتقة البعض، وأما المستسعاة المرهونة إذا أعتقها الراهن وهو معسر؛ فهي حرة اتفاقًا، كذا في «البحر الرائق»، وعورة الرقيق كعورة الحر، والخنثى المشكل الحر كالحرة، والرقيق كالأمَة، قال في «السراج» : الخنثى إذا كان رقيقًا؛ فعورته عورة الأمَة، وإن كان حرًّا؛ فعورته عورة المرأة الحرة، فإن ستر ما بين سرته وصلى؛ قال بعضهم: تلزمه الإعادة؛ لجواز أن يكون امرأة، وقال بعضهم: لا تلزمه الإعادة؛ لجواز أن يكون رجلًا، والإعادة أحوط، كذا في «النهر الفائق»، وفيه عن «السراج» : (الصغير جدًّا لا عورة له، ولا بأس بالنظر إليها ومسها؛ لأنَّه عليه السَّلام كان يفعل ذلك في الحسن والحسين)، كذا في «الفتاوى»، ومثل الصغير الصغيرة، فيباح النظر والمس، كذا في «معراج الدراية»، والمراد بهما: ما لم يبلغا حد الشهوة، وتمامه في «منهل الطلاب».

وزعم ابن بطال أن من صلى مكشوف العورة؛ لا إعادة عليه إجماعًا، وردَّه إمام الشَّارحين، فقال: دعوى الإجماع غير صحيحة، فيكون مراده إجماع أهل مذهبه، انتهى.

قلت: وقد نقل الشراح: أن الفخذ عورة في أصح أقوال مالك، وعليه فلا إجماع (٢) في أهل مذهبه، ولا يخفى أن ما زعمه ابن بطال غير صحيح؛ لمنافاته الأحاديث الدالة على وجوب الستر في الصلاة؛ فليحفظ.

وقال في «التوضيح» : حاصل ما في عورة الرجل خمسة أوجه؛ أصحها وهو المنصوص: أنها ما بين السرة والركبة، وهما ليسا بعورة، وبه قال زفر ومالك، والأصح عند أحمد، ثانيها: أنَّهما عورة كما روي عن الإمام الأعظم، ثالثها: السرة ومن الركبة، رابعها: عكسه، خامسها: القبل والدبر، وهو قول الإصطخري، وهو شاذ، انتهى.

(وقال أنس) زاد الأصيلي: «ابن مالك» : هو الأنصاري، مما وصله المؤلف قريبًا في هذا الباب: (حَسَرَ)؛ بفتح حروفها المهملات؛ أي: كشف (النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) في غزوة خيبر الإزار (عن فخذه) فهو دليل على أنه ليس من العورة، وبه قال ابن أبي ذئب، وابن علية، والطبري، وداود، وأحمد في رواية، والإصطخري من الشافعية، قال ابن حزم: العورة المفروض سترها عن الناظر في الصلاة من الرجال الذكر وحلقة الدبر فقط، وليس الفخذ من العورة، وهي من المرأة جميع جسدها حاشا الوجه والكفين فقط، والحر والعبد والحرة والأمَة فيه سواء بلا فرق؛ لحديث أنس الذي أخرجه البخاري: أنه عليه السَّلام غزا خيبر، وفيه: ثم حسر الإزار عن فخذه حتى إني أنظر إلى بياض فخذه عليه السَّلام، فصح أن الفخذ من الرجل ليس بعورة، ولو كان عورة؛ لما كشفها الله تعالى من رسوله المطهر المعصوم من الناس في حال النبوة والرسالة، ولا أَرَاها أنس بن مالك ولا غيره، وهو تعالى عصمه من كشف العورة في حال الصبا من قبل النبوة، انتهى.

والجواب عن هذا الحديث: أنه محمول على غير اختيار الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم فيه، وذلك بسبب ازدحام الناس حيث إنهم في غزوة، يدل عليه مس ركبة أنس فخذه عليه السَّلام، وما ذاك إلا بسبب الازدحام (٣)، فليس للنبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم فيه اختيار، وما زعمه ابن حزم من أنه: لو كان عورة؛ لما كشفها الله من رسوله... إلى آخره: ممنوع؛ لأنَّ ذلك غير منافٍ؛ لأنَّه إنَّما كان لأجل التشريع حتى يظهر أن الفخذ عورة، لا سيما وقد قال عليه السَّلام: «الفخذ عورة»، فيتعين أن يكون قوله عليه السَّلام: «الفخذ عورة» بعد حسر الإزار عن فخذه إن كان بغير حاجة، والقول مقدم على الفعل عند المحققين، فحديث جرهد يكون ناسخًا لحديث أنس، وقال القرطبي: ويرجح حديث جرهد أن تلك الأحاديث المعارضة له قضايا معينة في أوقات وأحوال مخصوصة يتطرق إليها الاحتمال ما لا يتطرق في حديث جرهد، فإنه أعطى حكمًا كليًّا، فكان أولى، وبيان ذلك: أن تلك الوقائع تحتمل الخصوصية للنبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم بذلك، أو البقاء (٤) على البراءة الأصلية، أو كان لم يحكم عليه في ذلك الوقت بشيء، ثم بعد ذلك حكم عليه بأنه عورة، انتهى.

يعني: فيكون منسوخًا كما قلناه، والدليل متى طرقه الاحتمال؛ سقط الاستدلال به، لا يقال: الخصوصية لا بد لها من دليل والأصل عدمها؛ لأنَّا نقول: الظاهر أن ذلك خصوصية، والدليل عليه أن أنسًا رأى فخذه عليه السَّلام دون غيره من الصحابة، فلو كان عامًّا؛ لكان جميع الصحابة رأوا فخذه عليه السَّلام، ولم يثبت ذلك عنهم، فالظاهر أنه خصوصية أو منسوخ؛ فافهم.

فإن قلت: روى الحافظ الطحاوي من حديث حفصة بنت عمر رضي الله عنهما قالت: كان رسول الله


(١) في الأصل: (ذراعيها)، والمثبت هو الصواب.
(٢) في الأصل: (إجماعًا)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٣) في الأصل: (الازدحال)، وهو تحريف.
(٤) في الأصل: (التقاء)، وهو تصحيف.

<<  <   >  >>