صلَّى الله عليه وسلَّم ذات يوم قد وضع ثوبه بين فخذيه، فجاء أبو بكر فاستأذن، فأذن له والنبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم على هيئته، ثم جاء عمر بمثل هذه الصفة، ثم جاء أناس من أصحابه والنبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم على هيئته، ثم جاء عثمان فاستأذن عليه فأذن له، ثم أخذ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ثوبه فجلله، فتحدثوا ثم خرجوا، فقلت: يا رسول الله؛ جاء أبو بكر، وعمر، وعلي، وأناس من أصحابك وأنت على هيئتك، فلما جاء عثمان؛ تجللت ثوبك، فقال: «أولا أستحي ممن تستحي منه الملائكة؟!»، قالت: وسمعت أبي وغيره يحدثون نحوًا من هذا، وأخرجه أحمد والطبراني أيضًا.
قلت: أجاب الحافظ الطحاوي عنه: بأنَّ هذا الحديث على هذا الوجه غريب؛ لأنَّ جماعة من أهل البيت روَوْه على غير هذا الوجه المذكور، وليس فيه ذكر كشف الفخذين، فحينئذٍ لا تثبت به الحجة.
وقال أبو عمر: وحديث حفصة فيه اضطراب، وقال البيهقي: والذي روي في قصة عثمان من كشف الفخذين مشكوك فيه، وقال الطبري: الأخبار التي رويت عن النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم أنه دخل عليه أبو بكر وعمر وهو كاشف فخذه؛ واهية الأسانيد لا يثبت بمثلها حجة في الدين، ولا الأخبار الواردة بالأمر بتغطية الفخذ، والأخبار الواردة في النهي عن كشفها أخبار صحاح، انتهى.
يعني: تثبت بها الحجة، والنهي يفيد الحرمة، فثبت أن الفخذ عورة يجب ستره في الصلاة وخارجها.
وقال إمام الشَّارحين: وقول الحافظ الطحاوي: «لأن جماعة من أهل البيت رووه على غير هذا الوجه» : هو حديث عائشة وعثمان، فأخرجه مسلم: أن عائشة رضي الله عنها وعثمان رضي الله عنه قالا: إن أبا بكر استأذن على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو مضطجع على فراشه لابس مرط عائشة، فأذن لأبي بكر وهو كذلك فقضى إليه حاجته، ثم انصرف، ثم استأذن عمر فأذن له وهو على تلك الحال فقضى إليه حاجته، ثم انصرف، قال عثمان: ثم استأذنت عليه، فجلس، وقال لعائشة: اجمعي عليك ثيابك، فقضيت إليه حاجته، ثم انصرف، فقالت عائشة: يا رسول الله؛ ما لي لم أرك فزعت لأبي بكر وعمر كما فزعت لعثمان؟ قال عليه السَّلام: «إن عثمان رجل حيي، وإني خشيت إن أذنت له على تلك الحال؛ ألَّا يبلغ إلي في حاجته»، وأخرجه الحافظ الطحاوي أيضًا، وقال: فهذا أصل هذا الحديث، ليس فيه ذكر كشف الفخذين أصلًا.
فإن قلت: قد روى مسلم أيضًا في «صحيحه»، وأبو يعلى في «مسنده»، والبيهقي في «سننه» هذا الحديث، وفيه ذكر كشف الفخذين، ولفظ مسلم: أن عائشة قالت: كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مضطجعًا في بيته، كاشفًا عن فخذيه أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر، فأذن له وهو على تلك الحالة، ثم استأذن عمر، فأذن له وهو كذلك، ثم استأذن عثمان، فجلس رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وسوَّى ثيابه، فلما خرج؛ قالت عائشة: دخل أبو بكر فلم تهتش له، ثم دخل عمر فلم تهتش له ولم تباله، فلما دخل عثمان؛ جلست وسويت ثيابك؟ فقال: «ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة؟!».
قلت: لما أخرجه البيهقي؛ قال: لا حجة فيه؛ لأنَّه مشكوك فيه، فإن الراوي قال: «فخذيه أو ساقيه»، فدل ذلك على أن ما قاله الحافظ الطحاوي: إن أصل الحديث ليس فيه ذكر كشف الفخذين، وقال أبو عمرو: هذا حديث مضطرب، انتهى.
(قال أبو عبد الله) : هو المؤلف نفسه، كذا في رواية ابن عساكر فقط: (وحديث أنس)؛ أي: ابن مالك المذكور (أسند)؛ يعني: أقوى وأحسن سندًا من الحديث السابق (و) هو (حديث جرهد) وما معه، لكن العمل به (أحوط)؛ أي: أكثر احتياطًا في أمر الدين من حديث أنس، (حتى يُخرَج)؛ بضم المثناة التحتية أوله، وفتح الراء، وفي رواية: (حتى يَخرُج)؛ بفتح المثناة التحتية، وضم الراء، كذا في «الفرع»، قال إمام الشَّارحين: وهو على صيغة جماعة المتكلم من المضارع؛ بفتح النون، وضم الراء، وتبعه ابن حجر (من اختلافهم)؛ أي: العلماء؛ يعني: لما وقع الخلاف في الفخذ هل هو عورة أم لا؟ فذهب قوم: إلى أنه عورة، واحتجوا بحديث جرهد، وبما روي مثله في هذا الباب، وذهب آخرون: إلى أنه ليس بعورة، واحتجوا بحديث أنس كأنَّ قائلًا يقول: إن الأصل أنه إذا روي حديثان في حكم واحد؛ أحدهما أصح من الآخر؛ فالعمل يكون بالأصح، فههنا حديث أنس أصح من حديث جرهد، فكيف وقع الاختلاف؟ فأجاب المؤلف عن هذا بقوله: «وحديث أنس أسند...» إلى آخره، وتقريره: أن يقال: نعم؛ حديث أنس أسند من حديث جرهد، إلا أن العمل بحديث جرهد؛ لأنَّه أحوط في أمر الدين، وأقرب إلى التقوى؛ للخروج من اختلاف العلماء، ولأجل هذه النكتة؛ لم يقل المؤلف: باب الفخذ عورة، ولا قال أيضًا: باب الفخذ ليس بعورة، بل قال: (باب ما يذكر في الفخذ)، كذا قرره إمام الشَّارحين.
قلت: يعني: إنَّما قال: (باب ما يذكر في الفخذ)؛ لأجل أن يكون جاريًا على القولين في أن الفخذ عورة أم لا؟ وقد صرح علماؤنا الأعلام: بأنه لا بأس بالعمل بالقول الضعيف.
وقال الإمام أبو بكر محمد بن الفضل: من السرة إلى موضع نبات شعر العانة ليس من العورة؛ لتعامل العمال في ابتداء ذلك الموضع عند الائتزار، وفي ستره نوع حرج، وهذا القول ضعيف؛ لأنَّ التعامل بخلاف النص لا يعتبر، كما صرح به في «البحر» عن السراج، ومراده بتعامل العمال: عموم البلوى، فإن الناس الآن في زماننا في جميع البلدان لا يسعهم إلا هذا القول، فإنَّهم يدخلون الحمامات، ويئتزرون في المآزر، ويقعدون على الأجران لصب الماء، وحين يصبون الماء على أجسادهم؛ يسقط المئزر عن عورتهم من غير صنع على أفخاذهم، فتنكشف السرة وما تحتها وتبقى العانة مستورة، وكلما ستروا ما فوق العانة؛ يسقط المئزر بصب الماء، وهذا مما شوهد كثيرًا وعمت به البلوى، فينبغي العمل بهذا القول وإن كان ضعيفًا؛ لأنَّ العمل بالقول الضعيف أولى وأحسن من عدم العمل بالقول الصحيح، ولا سيما في خاصة نفسه، فإنه جائز كما صرحوا به، كذا في «منهل الطلاب»، والله تعالى أعلم بالصواب.
(وقال أبو موسى) : هو عبد الله بن قيس الأشعري، مما هو طرف من حديث ذكره المؤلف في (مناقب عثمان) رضي الله عنه، من رواية عاصم الأحول عن أبي عثمان النهدي عنه، وفيه: (غطى)؛ بالغين المعجمة، والطاء المهملة؛ أي: ستر (النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم ركبتيه)؛ بالتثنية، وفي رواية: (ركبته)؛ بالإفراد (حين دخل عثمان) هو ابن عفان رضي الله عنه، وذلك أدبًا معه واستحياء، وقد بين النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم معناه، كما في «مسلم» و «البيهقي» بقوله: «ألا أستحي ممن تستحي منه ملائكة السماء؟!»، وقد كان عليه السَّلام يصف