للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

قاله الشَّارح قدس سره، فذهب دحية (فأخذ صَفية)؛ بفتح الصاد المهملة، قيل: وكان اسمها زينب (بنت حُيَيٍّ)؛ بضم الحاء المهملة وكسرها، وفتح التحتية الأولى المخففة، وتشديد الثانية: ابن أخطب بن سَعْيَه -بفتح السين المهملة، وسكون العين المهملة، وفتح التحتية- ابن ثعلبة، وهي من بنات هارون أخ موسى عليهما السلام، وأمها اسمها برة -بفتح الموحدة، وتشديد الراء- بنت سموءل، وكانت تحت كنانة بن الربيع بن أبي الحُقَيق -بضم الحاء المهملة، وفتح القاف الأولى- قتل يوم خيبر، توفت في خلافة سيدنا معاوية سنة خمسين، كما قاله الواقدي، وقال غيره: ماتت في خلافة علي الصديق الأصغر رضي الله عنه، سنة ست وثلاثين، ودفنت بالبقيع، كذا في «عمدة القاري».

(فجاء رجل) : مجهول لم يعرف، قاله إمام الشَّارحين (إلى النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: إلى المكان الذي قاعد فيه، (فقال: يا نبيَّ الله؛ أعطيت دحية صفية بنت (١) حيي سيدة قُرَيْظة)؛ بضم القاف، وفتح الراء، وسكون التحتية، وبالظاء المهملة (والنَضِير)؛ بفتح النون، وكسر الضاد المعجمة؛ وهما قبيلتان عظيمتان من يهود خيبر، وقد دخلوا في العرب على نسبهم إلى هارون عليه السَّلام، كذا في «عمدة القاري»، فإنها (لا تصلح إلا لك) : من حيث إنها من بيت النبوة، فإنها من ولد هارون أخي موسى عليهما السلام، ومن بيت الرئاسة، فإنها من بيت سيد (٢) قريظة والنضير مع ما كانت عليه من الجمال الباعث على كثرة النكاح المؤدية إلى كثرة النسل، وإلى جمال الولد لا للشهوة النفسانية، فإنه عليه السَّلام معصوم منها، قاله إمام الشَّارحين.

(قال) عليه السَّلام: (ادعوه) أي: دحية (بها) أي: بصفية، فدعوه، (فجاء بها) إلى المكان الذي فيه النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، (فلما نظر إليها النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: أعجبته من جمالها، وشرفها، وحسنها، ونسبها؛ (قال)؛ أي: لدحية: اترك صفية لي و (خذ جارية من السبي غيرها)؛ أي: غير صفية، فارتجعها منه، وهذا يحتمل وجهين؛ أحدهما: أن يكون رد الجارية برضاه وأذن له في أخذ غيرها، والثاني: أنه إنَّما أذن له في جارية من حشو السبي لا في أخذ أفضلهن، ولما رأى أنه أخذ أنفسهن وأجودهن نسبًا، وشرفًا، وجمالًا؛ استرجعها؛ لئلا يتميز دحية بها على باقي الجيش مع أن فيهم من هو أفضل منه، فقطع هذه المفاسد وعوضه عنها، كذا في «عمدة القاري».

وفيه عن «سيرة الواقدي» : (أنه عليه السَّلام أعطاه أخت كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وكان كنانة زوج صفية، فكأنه عليه السَّلام طيب خاطره لما استرجع منه صفية بأن أعطاه أخت زوجها) انتهى.

وفي «سيرة ابن سيد الناس» : (أنه أعطاه ابنتي عم صفية) انتهى.

وزعم الكرماني فإن قلت: لما وهبها من دحية؛ فكيف رجع عنها؟

قلت: إما لأنَّه لم يتم عقد الهبة بعد، وإما لأنَّه أبو المؤمنين وللوالد أن يرجع عن هبة الولد، وإما لأنَّه اشتراها منه، انتهى.

ورده إمام الشَّارحين فقال: أجاب بثلاثة أجوبة: الأول: فيه نظر؛ لأنَّه لم يجر عقد هبة حتى يقال: إنه رجع عنها، وإنما كان إعطاؤها إياه بوجه من الوجوه التي ذكرناها.

والثاني: فيه نظر أيضًا؛ لأنَّه لا يمشي ما ذكره في مذهب غيره؛ يعني: أنه ذكره ترويجًا لما ذهب إليه إمامه، والحال أن الجمهور على خلافه، فلا يتمشى ما ذكره على مذهب الجمهور، والأوجه هي الثلاثة التي ذكرت عند قوله: (فخذ جارية).

والثالث: فيه نظر أيضًا؛ لأنَّه ذكر أنه اشتراها منه؛ أي: من دحية، والحال أنه لم يجر بينهما عقد بيع أولًا، فكيف اشتراها منه بعد ذلك؟

فإن قلت: وقع في رواية مسلم: (أن النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم اشترى صفية منه بسبعة أرؤس).

قلت: إطلاق الشراء على ذلك على سبيل المجاز؛ لأنَّه لما أخذها منه على الوجه الذي ذكرناه؛ عوضه عنها بسبعة أرؤس على سبيل التكرُّم والفضل، فأطلق الراوي الشراء عليه؛ لوجود معنى المبادلة فيه، انتهى.

وقال القاضي عياض: (الأولى عندي: أن صفية كانت فيئًا؛ لأنَّها كانت زوجة كنانة بن الربيع وهو وأهله من بني الحقيق كانوا صالحوا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وشرط عليهم ألَّا يكتموا كنزًا، فإن كتموه؛ فلا ذمة لهم، فانتقض عهدهم فسباهم، وصفية من سبيهم، فهي فيء لا يخمَّس، بل يفعل فيه الإمام ما رأى) انتهى.

ورده إمام الشَّارحين فقال: (هذا تفريع على مذهبه: أن الفيء لا يخمس، ومذهب غيره: أن الفيء يخمس) انتهى.

قلت: يعني: إنَّما ذكر هذا الوجه؛ لأجل ترويج مذهبه من أن الفيء لا يخمس، وهو خلاف ما عليه الجمهور من أن الفيء يخمس، على أن ما ذكره ممنوع؛ لأنَّ أنسًا رضي الله عنه لم يذكر في هذه القصة أنه عليه السَّلام صالحهم، ولا أنه شرط عليهم، ولا أنَّهم نقضوا العهد، وغاية ما فيه أنه عليه السَّلام دعاهم إلى الإسلام فأبوا، فقاتلهم، ويدل عليه قول أنس: إن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم غزا خيبر...) إلى آخره، وهذا لا يدل على ما ذكره؛ فليحفظ، فالحق هو ما قاله إمام الشَّارحين، وهو الصواب.

(قال) أي: أنس: (فأعتقها) أي: صفية (النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم وتزوجها) بعد ذلك، (فقال له) أي: لأنس (ثابت) : هو البناني التابعي: (يابا حمزة)؛ بالحاء المهملة والزاي، أصله: ياأبا حمزة، فحذفت الألف تخفيفًا، وهي كنية أنس رضي الله عنه، (ما أصدقها) عليه السَّلام؟ (قال)؛ أي: أنس: أصدقها (نفسها أعتقها)؛ أي: بغير عوض، (وتزوجها)؛ أي: بدون مهر، ففيه استحباب عتق السيد أمته وتزوجها، وقد صح أن له أجرين، كما جاء في حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، واتفق ثابت البناني، وقتادة، وعبد العزيز بن صهيب عن أنس: (أنه صلَّى الله عليه وسلَّم أعتق صفية، وجعل عتقها صداقها)، وبه قال قتادة في رواية، وأخذ بظاهره أحمد ابن حنبل، والحسن، وابن المسيب، ولا يجب لها مهر غيره، وتبعهم ابن حزم فقال: (هو سنة فاصلة، ونكاح صحيح، وصداق صحيح، فإن طلقها قبل الدخول؛ فهي حرة، ولا يرجع عليها بشيء، ولو أبت أن تتزوجه؛ بطل عتقها، وفي هذا خلاف متأخر ومتقدم).

وروى الحافظ الطحاوي عن أنس بن مالك: (أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أعتق صفية، وجعل عتقها صداقها)، وأخرجه مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، ثم قال: (فذهب


(١) في الأصل: (بن)، وليس بصحيح.
(٢) في الأصل: (سيدة)، وليس بصحيح.

<<  <   >  >>