للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

بحال جيش أنذر بهجومه قومه بعض نصائحهم، فلم يلتفتوا إلى إنذاره حتى أناخ بفنائهم بغتة، فأغارهم وقطع دابرهم، فإن ذلك التعبير حقيقة في هذه الهيئة المشبه بها، فأطلق على الهيئة الأولى مجازًا على طريق التمثيل، انتهى.

(قالها)؛ أي: هذه الجملة عليه السَّلام (ثلاثًا)؛ أي: ثلاث مرات، وإنما كررها إخبارًا منه لأصحابه أن النصرة لله ولرسوله عليه السَّلام عليهم حقيقة، (قال)؛ أي: أنس بن مالك: (وخرج القوم إلى أعمالهم) أي: لأعمالهم التي كانوا يعملونها، فكلمة (إلى) بمعنى اللام، فإنها تأتي بمعنى اللام كثيرًا، قاله إمام الشَّارحين، وزعم الكرماني أن معناه: خرج القوم إلى مواضع أعمالهم، وتبعه البرماوي تعصبًا، وهذا المعنى قد رده إمام الشَّارحين ولم يرض به، ولا ريب أنه غير ظاهر؛ للفرق بين خروجهم إلى مواضع أعمالهم وبين خروجهم لأعمالهم، فإنَّهم قد يخرجون لمواضع أعمالهم ولا يعملون، ويخرجون لأعمالهم؛ أي: لأجل العمل، فالظاهر هو ما قاله إمام الشَّارحين يدل عليه قوله عليه السَّلام: «خربت خيبر»، وذلك بسبب أنه رآهم خرجوا بمساحيهم ومكاتلهم وغير ذلك من آلات الحراث، ولا ريب أنه إذا كان هذا حالهم؛ فالغلبة عليهم، وهو ظاهر في أنَّهم خرجوا لأجل أعمالهم التي يعملونها؛ فليحفظ.

(فقالوا)؛ أي: أهل خيبر: (محمدٌ)؛ أي: جاء محمد، وارتفاعه على أنه فاعل لفعل محذوف، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هذا محمد عليه السَّلام، كذا في «عمدة القاري».

(قال عبد العزيز) : هو ابن صهيب أحد رواة الحديث عن أنس: (وقال بعض أصحابنا) : أشار بهذا إلى أنه لم يسمع هذه اللفظة من أنس، وإنما سمعها من بعض أصحابه عنه، وهذه رواية عن المجهول، إذ لم يعين هذا البعض منه، وزعم ابن حجر أنه يحتمل أن يكون هذا البعض هو محمد بن سيرين؛ لأنَّ المؤلف أخرج من طريقه أيضًا، ويحتمل أن يكون هذا البعض هو ثابت البناني؛ لأنَّ مسلمًا أخرجه من طريقه أيضًا، ورده إمام الشَّارحين فقال: (ويحتمل أن يكون هذا البعض غيرهما، وعلى كل حال؛ لا يخرج عن الجهالة) انتهى.

قلت: والاحتمالان اللذان (١) ذكرهما ابن حجر ظن وتخمين، فإنه لا يلزم من كون المؤلف أخرج من طريق ابن سيرين أن يكون هو ذلك البعض؛ لأنَّ عادة المؤلف التعدد في الروايات والاختلاف في الطرق، ولا يلزم أيضًا من كون مسلم أخرج من طريق ثابت أن يكون هو ذلك البعض؛ لاحتمال أنَّ هذا الطريق غير طريق المؤلف، فالصواب أنَّ هذا البعض مجهول لم يعلم اسمه؛ فافهم.

(والخَميسُ)؛ بفتح الخاء المعجمة بالرفع عطفًا على قوله (محمد)، وبالنصب على أن تكون الواو بمعنى (مع)، فيكون المعنى: جاء محمد مع الجيش؛ (يعني)؛ أي: يريد ويقصد بقوله: (الخميس) (الجيش) : وهذا المعنى يحتمل أن يكون تفسيرًا من عبد العزيز، ويحتمل أن يكون ممن دونه، وأشار عبد العزيز إلى أنه لم يسمع قوله: (والخميس) من أنس، وإنما سمعها من بعض أصحابه، كما سبق.

قال إمام الشَّارحين: (وسمي الجيش خميسًا؛ لأنَّه خمسة أقسام: مقدمة، وساقة، وقلب، وجناحان، ويقال: ميمنة، وميسرة، وقلب، وجناحان، وقال ابن سيده: (سمي به؛ لأنَّه يخمس ما وجده)، وقال الأزهري: الخمس إنَّما ثبت في الشرع، وكانت الجاهلية يسمونه بذلك ولم يكونوا يعرفون الخمس) انتهى.

ثم قال الشَّارح: (والحاصل: أن عبد العزيز قال: سمعت من أنس قالوا: محمد فقط، وقال بعض أصحابه: قالوا: محمد والخميس، ثم فسر عبد العزيز (الخميس) بقوله: (الجيش)، ويجوز أن يكون التفسير ممن دونه، وعلى كل حال؛ فهو مدرج) انتهى.

(قال)؛ أي: أنس: (فأصبناها) أي: خيبر؛ أي: أخذناها (عَنْوة)؛ بفتح العين المهملة، وسكون النون؛ أي: قهرًا، يقال: أخذته عنوة؛ أي: قهرًا، وقيل: أخذ عنوة؛ أي: عن غير طاعة، وقال ثعلب: (أخذت الشيء عنوة؛ أي: قهرًا في عنف واحد، وأخذته عنوة؛ أي: صلحًا في رفق)، وزعم ابن التين أنه يجوز أن يكون عن تسليم من أهلها وطاعة بلا قتال، ونقله عن القزاز في «جامعه»، قال إمام الشَّارحين: (وحينئذ يكون هذا اللفظ من الأضداد) انتهى.

قلت: وظاهر أنَّهم أصابوها قهرًا من غير إطاعة، بل بالقتال، يدل عليه قوله: (عنوة)؛ وهو القهر، وهو ضد الطاعة، ولهذا قال أبو عمرو: (الصحيح: في أرض خيبر كلها عنوة).

وقال المنذري: واختلف في فتح خيبر هل كانت عنوة، أو صلحًا، أو أجلى أهلها عنها بغير قتال، أو بعضها صلحًا وبعضها عنوة، وبعضها أجلى عنها أهلها؛ قال: والصحيح الثاني، قال إمام الشَّارحين: (وبهذا يندفع التضاد بين الآثار) انتهى.

(فجُمع) بضم الجيم مبنيًّا للمفعول (السبي)؛ أي: بأمر النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ وهو ما يؤخذ من الكفار، وسمي سبيًا؛ لأخذه قهرًا مجانًا، (فجاء دِحية)؛ بفتح الدال المهملة وكسرها، زاد ابن عساكر الكلبي: (هو دحية بن خليفة بن فروة الكلبي)، وكان أجمل الناس وجهًا، وكان جبريل عليه السَّلام يأتي النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم في صورته، وهو مدفون بقرية المزة غربي دمشق رضي الله عنه، (فقال: يا نبيَّ الله؛ أعطني جارية من السبي)؛ أي: من الغنيمة التي غنمتها المسلمون، فإن ولاية الإعطاء لك، (فقال) عليه السَّلام له، وفي رواية: بدون الفاء: (اذهب)؛ أي: إلى المكان الذي جمع فيه السبي (فخذ جارية)؛ أي: منه، وإنما جاز للنبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم أن يأذن لدحية بأخذ جارية قبل القسمة.

وأجاب إمام الشَّارحين بثلاثة أجوبة:

الأول: يجوز أن يكون أذن له في أخذها على سبيل التفضيل له، إما من أصل الغنيمة أو من خمس الخمس، سواء كان قبل التمييز أو بعده.

الثاني: يجوز أن يكون أذن له من الخمس إذا ميز.

الثالث: يجوز أن يكون أذن له ليقوم عليه بعد ذلك، ويحسب من سهمه) انتهى.

وأجاب الكرماني: بأنه صفي المغنم لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فله أن يعطيه لمن شاء، ورده إمام الشَّارحين: (بأنَّ هذا الجواب غير مقنع؛ لأنَّه عليه السَّلام قال له ذلك قبل أن يعين الصفي) انتهى.

قلت: ووجه فساد هذا الجواب ظاهر، كما لا يخفى؛ لأنَّه حين أذن له لم يكن علم عليه السَّلام بما جمع كثيرًا أو قليلًا، وكم يخرج السهم وغير ذلك، وإنما الجواب ما


(١) في الأصل: (الذين)، وليس بصحيح.

<<  <   >  >>