للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

هذا وإن كان إسناد الحديث ضعيفًا؛ فحينئذٍ أن المصحِّف من قال: علاثة، لا من قال: عائشة الأنصارية؛ فليحفظ.

ثم قال: وجاء في رواية في «الصحيح» : (أرسل؛ أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم إلى فلانة -سماها سهل-: «مري غلامك النجار أن يعمل لي أعوادًا أجلس عليهنَّ إذا كلمت الناس»، فأمرته، فعملها من طرفاء الغابة، ثم جاء بها، فأرسلت بها إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فأمر بها فوضعت ههنا).

وعن جابر: أن امرأة قالت: (يا رسول الله؛ ألا أجعل لك شيئًا تقعد عليه، فإن لي غلامًا نجارًا...)؛ الحديث، وفي «الإكليل» للحاكم عن يزيد بن رومان: (كان المنبر ثلاث درجات، فزاد فيه معاوية لعله قال: جعله ستَّ درجات، وحوَّله عن مكانه، فكسفت الشمس يومئذٍ، قال الحاكم: وقد أحرق المنبر الذي عمله معاوية، ورد منبر النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم إلى المكان الذي وضعه فيه، وفي «الطبقات» : (كان بينه وبين الحائط ممرَّ الشاة)، وفي «الإكليل» أيضًا من حديث المبارك بن فضالة، عن الحسن، عن أنس رضي الله عنه: (لما كثر الناس؛ قال النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: «ابنوا لي منبرًا»، فبنوا له عتبتين، وقد ذكرنا عن أبي داود في حديث ابن عمر: (مرقاتين)؛ وهي تثنية مرقاة؛ وهي الدرجة.

فإن قلت: في الصحيح ثلاث دَرَجٍ، فما التوفيق بينهما؟

قلت: الذي قال: (مرقاتين) : كأنه لم يعتبر الدرجة التي كان يجلس عليها، والذي روى ثلاثًا؛ اعتبرها، انتهى كلامه.

قلت: وهو توفيق حسن بين الروايتين، والله أعلم.

(لرسول الله) أي: لأجله (صلَّى الله عليه وسلَّم) : ويحتمل أن القصة متعددة، وأن كل واحد من المذكورين قد عمل منبرًا وأنه عليه السَّلام قد اختار لنفسه منهم واحدًا، ويحتمل أن الجميع اشتركوا في عمله، ويحتمل أن كل واحد عمل منبرًا على التعاقب، ويحتمل غير ذلك، والله أعلم.

(فقام) بالفاء، وفي رواية: (وقام)؛ بالواو، وفي رواية: (فرقى) (عليه) أي: على المنبر (رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ لأنَّه أعجبه (حين عُمِل)؛ بضم العين المهملة مبني للمجهول؛ أي: بعد أن فرغ من عمله وجيء به بين يديه (ووُضع)؛ بضم أوله مبني للمجهول أيضًا، في المكان الذي أراده عليه السَّلام، فبعد الوضع قام عليه (فاستقبل) عليه السَّلام (القِبلة)؛ بكسر القاف؛ أي: توجه إليها، (كبر) بدون الواو؛ لأنَّه جواب عن سؤال، كأنه قيل: ما عمل بعد الاستقبال؟ قال: كبر، وفي بعض الأصول: (فكبر) بالفاء، وفي بعض النسخ: (وكبر) بالواو، كذا في «عمدة القاري».

(وقام الناس) أي: الصحابة (خلفه)؛ أي: خلف النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ أي: وراءه صفوفًا، فكبروا مقتدين به، (فقرأ) عليه السَّلام ما تيسر له من القرآن، (وركع وركع الناس خلفه)؛ أي: متابعين له، (ثم رفع رأسه) أي: من الركوع، (ثم رجع القهقرى)؛ أي: رجع إلى ورائه.

فإذا قلت: رجعت القهقرى؛ فكأنك قلت: رجعت الرجوع الذي يعرف بهذا الاسم؛ لأنَّ القهقرى ضرب من الرجوع، فيكون انتصابه على أنه مفعول مطلق، لكنه من غير لفظ؛ كما تقول: قعدت جلوسًا، كذا في «عمدة القاري».

قلت: وإنما فعل عليه السَّلام ذلك حتى يكون مستمرًّا على الاستقبال، ولئلَّا يولي ظهره القبلة؛ لأنَّه لو استدبر القبلة؛ لفسدت صلاته، فالاستدامة على استقبال القبلة شرط لصحة الصلاة إن لم يكن خائفًا، كما هو مقرر في الفروع.

(فسجد على الأرض) وسجد الناس خلفه، (ثم عاد إلى المنبر) قائمًا، (ثم قرأ) ما تيسر له من القرآن، (ثم ركع) وركع الناس خلفه، وإنما لم يذكر ذلك؛ للعلم به مما قدمه، وهو معلوم أيضًا من المقام، (ثم رفع رأسه) من الركوع، (ثم رجع القهقرى) أي: رجع إلى ورائه (حتى سجد بالأرض) : والفرق بين قوله السابق: (على الأرض) وبين ما هنا من حيث إن في الأول لوحظ معنى الاستعلاء، وهنا لوحظ معنى الإلصاق، أفاده إمام الشَّارحين.

(فهذا شأنه) عليه السَّلام؛ أي: في هذه الصلاة، أو معناه من حيث صلاته إمامًا واقتداء الناس به، أو نحو ذلك، قال إمام الشَّارحين: (ففي الحديث الدلالة على ما ترجم له؛ وهو جواز الصلاة على المنبر، وقد علل عليه السَّلام صلاته عليه، وارتفاعه على المأمومين بالاتباع له والتعليم، فإذا ارتفع الإمام على المأموم؛ جاز، ولكنه مكروه إلا لحاجة كمثل هذا؛ فمستحب، هذا مذهب الإمام الأعظم، وأصحابه، والليث بن سعد، وبه قال محمد بن إدريس، وأحمد ابن حنبل، وعن مالك بن أنس: المنع، وبه قال الأوزاعي، وعندنا: جوازه إذا كان الإمام مرتفعًا مقدار قامة، وعن مالك: يجوز في الارتفاع اليسير، وهذا الحديث حجة عليه؛ فافهم.

وزعم ابن حزم أن مذهبنا المنع، وهو باطل لا أصل له في المذهب، وما هو إلا من تعصُّبه وعدم اطلاعه.

وفي الحديث: أن المشي اليسير في الصلاة لا يفسدها، وقال صاحب «المحيط» : المشي في الصلاة خطوة؛ لا يبطلها، وخطوتين أو أكثر؛ يبطلها، وعلى هذا؛ كان ينبغي أن تفسد هذه الصلاة على هذه الكيفية، ولكنا نقول: إذا كان لمصلحة؛ ينبغي ألَّا تفسد صلاته، ولا تكره أيضًا، كما في مسألة: من انفرد خلف الصف وحده؛ فإن له أن يجذب واحدًا من الصف الأول إليه ويصطفان، فإن المجذوب لا تفسد صلاته ولو مشى خطوة أو خطوتين، قاله إمام الشَّارحين.

وزعم الخطابي فيه أن العمل اليسير لا يفسد الصلاة، وكان المنبر ثلاث مراق (١)، ولعله إنَّما قام على الثانية منها، فليس في نزوله وصعوده إلا خطوتان، انتهى.

قلت: وهذه الكيفية التي فعلها عليه السَّلام في صلاته لا تفسدها؛ لأنَّ العمل الكثير المفسد للصلاة إنَّما يكون مفسدًا إذا كان في ركن واحد، أما إذا كان متفرقًا في أركانه؛ فلا يفسد، ولا يجمع، بل يعتبر كل فعل بمفرده، فقول صاحب «المحيط» السابق هذا الحديث يشهد له؛ لأنَّه عليه السَّلام صعد في الركعة الثانية، ونزل في الركعة الأولى، ونزوله خطوة واحدة وهو ركن واحد، وصعوده خطوة واحدة وهو ركن واحد، وعلى كل حال؛ فلا فساد؛ فليحفظ.

وما زعمه الخطابي يرده رواية أبي داود عن ابن عمر قال: (مرقاتين)، وفي «الإكليل» من حديث المبارك بن فضالة، عن الحسن، عن أنس قال: (فبنوا له عتبتين)، وعلى هذا؛ فيكون قيامه


(١) في الأصل: (مراقي)، ولعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>