للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

إمام الشَّارحين.

قلت: والصحيح أنه منسوخ، خلافًا لأحمد في مباحث ستأتي.

(ونزل) عليه السَّلام من المشربة (لتسع وعشرين) يومًا، (فقالوا) أي: الصحابة: (يا رسول الله؛ إنك آليت)؛ بفتح الهمزة وبالمد؛ أي: حلفت ألَّا تدخل على نسائك (شهرًا)؛ يعني: والشهر ثلاثون، فكيف نزلت لتسع وعشرين؟ (فقال) عليه السَّلام لهم: (إن الشهر) : اللام فيه للعهد عن ذلك الشهر المعين (تسع وعشرون) وفي رواية: (تسعة وعشرون)، ولا يلزم أن يكون كل الشهور تسعًا وعشرين، ففيه أن الشهر لا يأتي كاملًا دائمًا، وإن من حلف على فعل شيء أو تركه في شهر كذا فجاء الشهر تسعًا وعشرين يومًا؛ يخرج عن يمينه، فلو نذر صوم شهر بعينه فجاء الشهر تسعة وعشرين يومًا؛ لم يلزمه أكثر من ذلك، وإذا قال: لله عليه صوم شهر من غير تعيين؛ كان عليه إكمال عدد ثلاثين يومًا.

وفي الحديث أيضًا مشروعية اليمين؛ لأنَّه عليه السَّلام آلى ألَّا يدخل على نسائه شهرًا، وفيه: استحباب العبادة عند حصول الخدشة ونحوها، وفيه: جواز الصلاة جالسًا عند عدم القدرة على القيام، وهذا في حق الفرائض، أما النوافل؛ فتجوز من قعود مع القدرة على القيام، ولكن له نصف أجر القائم، واستدل أحمد ابن حنبل، وإسحاق، والأوزاعي، وابن حزم بهذا الحديث: على أن الإمام إذا صلى قاعدًا؛ يصلي من خلفه قعودًا، وقال مالك بن أنس: لا تجوز صلاة القادر على القيام خلف القاعد لا قائمًا ولا قاعدًا، وقال الإمام الأعظم رئيس المجتهدين، والثوري، وأبو ثور، ومحمد بن إدريس، والجمهور من السلف: لا يجوز للقادر على القيام أن يصلي خلف القاعد إلا قائمًا، وهذا في الفرض والواجب، أما النفل؛ فتجوز صلاة القادر على القيام قاعدًا خلف القائم والقاعد؛ لأنَّ النفل يتوسع فيه ما لا يتوسع في غيره، كما صرح به «صاحب البحر».

قال إمام الشَّارحين: والجواب عن حديث الباب من وجوه؛ الأول: أنه منسوخ، وناسخه صلاة النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم بالناس في مرض موته قاعدًا وهم خلفه قيام، وأبو بكر رضي الله عنه قائم يعلمهم بأفعال صلاته؛ بناء على أن النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم كان الإمام وأن أبا بكر كان مأمومًا في تلك الصلاة.

فإن قلت: كيف وجه هذا النسخ، وقد وقع في ذلك خلاف، وذلك أنَّ هذا الحديث الناسخ، وهو حديث عائشة فيه: أنه كان عليه السَّلام إمامًا وأبو بكر مأمومًا، وقد ورد فيه العكس، كما أخرجه الترمذي والنسائي عن نعيم بن أبي هند، عن أبي وائل، عن مسروق، عن عائشة قالت: (صلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في مرضه الذي توفي فيه خلف أبي بكر قاعدًا)، وقال الترمذي: (حديث حسن صحيح)، وأخرج النسائي أيضًا عن حميد، عن أنس قال: (آخر صلاة صلاها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مع القوم؛ صلى في ثوب واحد متوشحًا خلف أبي بكر رضي الله عنه).

قلت: مثل هذا لا يعارض ما وقع في «الصحيح» مع أن العلماء جمعوا بينهما، فقال البيهقي في «المعرفة» : ولا تعارض بين الحديثين، فإن الصلاة التي كان النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم إمامًا [فيها] هي صلاة الظهر يوم السبت أو الأحد، والتي كان عليه السَّلام فيها مأمومًا هي صلاة الصبح من يوم الاثنين، وهي آخر صلاة صلاها عليه السَّلام حتى خرج من الدنيا.

قال: وهذا لا يخالف ما ثبت عن الزهري عن أنس في صلاتهم يوم الاثنين، وكشفه عليه السَّلام الستر ثم إرخائه، فإن ذلك إنَّما كان في الركعة الأولى، ثم إنه عليه السَّلام وجد في نفسه خفة، فخرج فأدرك معه الركعة الثانية.

وقال القاضي عياض: نسخ إمامة القاعد ثبتت بقوله عليه السَّلام: «لا يَؤُمنَّ أحد بعدي جالسًا»، وبفعل الخلفاء بعده، وأنه لم يؤم أحد منهم قاعدًا وإن كان النسخ لا يمكن بعده عليه السَّلام؛ لمثابرتهم على ذلك، يشهد بصحة ذلك نهيه عليه السَّلام عن إمامة القاعد بعده.

ورده إمام الشَّارحين فقال: (هذا الحديث أخرجه الدارقطني ثم البيهقي في «سننهما» (١) عن جابر الجعفي عن الشعبي، وقال الدارقطني: لم يروه عن الشعبي غير جابر الجعفي، وهو متروك الحديث مرسل، لا تقوم به حجة، وقال عبد الحق في «أحكامه» : ورواه عن الجعفي مجالد، وهو أيضًا ضعيف) انتهى.

قلت: وقد يقال: المرسل حجة عند الأئمة الحنفية والجمهور، فيحتج به على ثبوت النسخ، ومراد القاضي عياض إثبات النسخ، وجوابه متضمن لشيئين: إثبات الخصوصية والنسخ، وكلاهما ثابت بهذا الحديث المرسل، وهو حجة؛ فتأمل.

ثم قال إمام الشَّارحين: (الوجه الثاني: أن الحديث كان مخصوصًا بالنبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وفيه نظر؛ فإن الأصل عدم الخصوصية حتى يدل عليه دليل، كما عرف في الأصول) انتهى.

قلت: وفي النظر نظر، فإنه عليه السَّلام لما فعل ذلك، ثم نهى عنه؛ دل على أنه إما نسخ، أو خصوصية، بل الخصوصية أقرب، كما ثبت بهذا الحديث المرسل المذكور آنفًا، فهو دليل الخصوصية؛ فتأمل.

ثم قال إمام الشَّارحين: (الوجه الثالث: يحمل قوله عليه السَّلام: «وإذا صلى جالسًا؛ فصلوا جلوسًا» على أنه إذا كان الإمام في حالة الجلوس؛ فاجلسوا، ولا تخالفوه بالقيام، وكذلك إذا صلى قائمًا؛ فصلوا قيامًا؛ يعني: إذا كان الإمام في حالة القيام؛ فقوموا، ولا تخالفوه بالقعود، وكذلك في قوله: «فإذا ركع؛ فاركعوا، وإذا سجد؛ فاسجدوا») انتهى.

قلت: يعني: فحينئذ يكون المراد بذلك المتابعة للإمام في أفعاله من حيث الأركان لا من حيث الاقتداء على هيئته في القعود، والمؤتم مثله، ويحتمل أن يكون المراد به الاقتداء في أثناء الصلاة؛ يعني: متى أدركتم الإمام في القيام؛ فوافقوه، وإن في الجلوس؛ فكذلك، وهكذا؛ فتأمل.

ثم قال إمام الشَّارحين: (ولقائل أن يقول: لا يقوى الاحتجاج على أحمد ابن حنبل بحديث عائشة المذكور: أنه عليه السَّلام صلى جالسًا والناس خلفه قيام، بل ولا يصلح حجة؛ لأنَّه لا تجوز صلاة القائم خلف من شرع في صلاته قائمًا، ثم قعد لعذر، ويجعلون هذا منه عفوًا، سيما وقد ورد في بعض طرق الحديث: أنه عليه السَّلام أخذ في القراءة من حيث انتهى إليه أبو بكر، رواه الدار قطني في «سننه»، وأحمد في «مسنده») انتهى.

قلت: وقد يقال: الاحتجاج به قوي، ويجعل هذا كمن سبقه الحدث في الصلاة واستخلف


(١) في الأصل: (سنتيهما).

<<  <   >  >>