الثوب)، وإنما من قولهم: لبست امرأة؛ أي: تمتعت بها زمانًا، فحينئذ يكون معناه: قد اسود من كثرة ما تمتع به في طول الزمان، قاله إمام الشَّارحين.
ثم قال: ومن هذا يظهر لك بطلان قول بعضهم: وقد استدل به على منع افتراش الحرير؛ لعموم النهي عن لبس الحرير، وقصد هذا القائل الغمز فيما قاله الحنفية من جواز افتراش الحرير وتوسده، ولكن الذي يدرك المعاني الدقيقة ومدارك الألفاظ العربية يعرف ذلك، ويقرُّ أن الحنفية لا يذهبون إلى شيء سدًى، انتهى.
قلت: ومراده بقوله: (بعضهم) ابن حجر، وما زعمه باطل، ومن دأبه التعصب والعناد، وفهم المعاني على خلاف معانيها العربية فإن مراد النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم بالنهي عن لبس الحرير: لبسه المعتاد على الجسد، وأما افتراش الحرير وتوسده؛ فليس فيه لبس؛ فهو خارج عن النهي، بل هو جائز، وقد فعله كثير من الصحابة والخلفاء رضي الله عنه، وصاحب الدار أدرى بالذي فيه.
وأما (لبس) في الحديث؛ فمعناه: التمتع، من قولهم: لبست المرأة؛ أي: تمتعت بها زمانًا، بدليل قوله في الحديث: (قد اسود) يعني: من كثرة الاستعمال، فإنه لو لم يستعمل؛ لم يسود، فهذا يدل على بطلان قوله: إنَّ معناه الافتراش؛ فافهم، فكيف يزعم ابن حجر هذا الزعم وما هو إلا من تحرك عرق العصبية والعناد؟ فافهم ذلك، ولا تكن من المتعصبين.
(فَتَنضَحه) من النضح، وهو الرش؛ أي: ترشه (بِمَاءٍ) وفي رواية مسلم: (فيكنس، ثم ينضح) وذلك لأجل تليين الحصير أو لإزالة الأوساخ منه فتنظفه، وهذا يدل على أنها فعلت ذلك من نفسها، وفي رواية مسلم أنه عليه السَّلام أمرها بذلك؛ لأنَّه قال: (فيأمر بالبساط الذي تحته فيكنس، ثم ينضح...)؛ الحديث، والظاهر: أنها فعلته بأمره عليه السَّلام، ويدل له رواية ابن أبي شيبة: (فأمر بجانب منه، فكنس ورشَّ)، وفي «الغرائب» للدارقطني: ثم دعا بوضوء فتوضأ، ثم قال لي -أي: لأنس-: «قم فتوضأ، ومُرِ العجوز فلتتوضأ، ومُرْ هذا اليتيم فليتوضأ...»؛ الحديث، (فَقَامَ رَسُولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: على الحصير لأجل الصلاة، ففيه جواز الصلاة على الحصير وسائر ما تنبته الأرض، وهو إجماع إلا من شذَّ بحديث أنه لم يصل عليه، وهو لا يصح، كذا ذكره صاحب «التوضيح».
قال إمام الشَّارحين: وأراد بقوله: (لا يصح)؛ أي: الحديث الذي رواه ابن أبي شيبة من حديث يزيد بن المقدام عن أبيه عن شريح بن هانئ: أنه سأل عائشة رضي الله عنها: أكان النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم يصلي على الحصير والله يقول: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} [الإسراء: ٨]؟ فقالت: لم يكن يصلي على الحصير، وقالوا: هذا الحديث غير صحيح؛ لضعف يزيد بن المقدام، ولهذا بوب البخاري باب (الصلاة على الحصير)، فإنَّ هذا الحديث لم يثبت عنده، وأورده؛ لمعارضة ما أقوى منه، والذي شذَّ فيه هو عمر بن عبد العزيز، فإنه كان يسجد على التر اب، ولكن يحمل فعله هذا على التواضع، انتهى.
قلت: وقد صح أنه عليه السَّلام قد صلى على الحصير، وهو أشد تواضعًا وأكثر خضوعًا، والظاهر: أن فعله لبيان الأفضل؛ لأنَّ الأفضل السجود على الأرض أو على ما تنبته الأرض، فإن الحصير وإن كان مما تنبته الأرض لكن التراب أرض حقيقة، وإذا وجد؛ فهو أفضل مما تنبته، والله أعلم.
(فَصَفَفْتُ أَنَا وَالْيَتِيمُ) كذا في رواية الأكثرين، وفي رواية المستملي والحمُّوي: (وصففت واليتيم) بإسقاط لفظة (أنا)، وبدل الفاء: واو، وقال إمام الشَّارحين: ومثل هذا فيه خلاف بين الكوفيين والبصريين؛ فعند البصريين لا يعطف على الضمير المرفوع إلا بعد تأكيده بضمير منفصل؛ ليحسن العطف على المرفوع المتصل بارزًا كان أو مستترًا؛ كقوله تعالى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ} [البقرة: ٣٥]، وعند الكوفيين يجوز ذلك بدون التأكيد.
و (اليتيمَُ) : يجوز فيه الرفع والنصب؛ أما الرفع؛ فلأنه معطوف على الضمير المرفوع، وأما النصب؛ فلأنه يكون الواو فيه واو المصاحبة؛ والتقدير: فصففت أنا مع اليتيم، انتهى.
قلت: فرواية الأكثرين جارية على مذهب البصريين، ورواية المستملي والحمُّوي جارية على مذهب الكوفيين في جواز عدم التأكيد، و (اليتيمُ)؛ بالرفع رواية أبي ذر، وبالنصب رواية «الفرع» مصححًا عليه.
وزعم الكرماني أن رواية الرفع وجهها: أن يكون مبتدأ، و (وراءه) خبره، والجملة حال، ورده إمام الشَّارحين وتبعه الشراح بأنه غير موجَّه، بل الرفع على العطف على الضمير المرفوع كما ذكرنا؛ فافهم.
وقوله (وَرَاءَهُ)؛ أي: خلف النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، قال إمام الشَّارحين: واليتيم هو ضميرة بن أبي ضميرة مولى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، كذا قاله الذهبي في «تجريد الصحابة»، ثم قال: ولأبيه صحبة، وقال في «الكنى» : (أبو ضميرة مولى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، كان من حِمْير، اسمه سعد)، وكذا قال البخاري: إن اسمه سعد الحميري من آل ذي يزن، وقال أبو حاتم: سعد الحميري وهو جد حسين بن عبد الله بن ضميرة بن أبي ضميرة، انتهى.
ويقال: اسم أبي ضميرة روح بن سدر، وقيل: روح بن شيرزاد، وضُمَيْرَة؛ بضم الضاد المعجمة، وفتح الميم، وسكون التحتية، وفتح الراء، آخره هاء، انتهى كلام إمام الشَّارحين رحمه الله.
(وَالْعَجُوزُ) هي مليكة المذكورة أولًا (من ورائنا)؛ أي: خلفهم، والجملة اسمية وقعت حالًا، وفي حالة الرفع يكون معطوفًا؛ فافهم، قاله إمام الشَّارحين.
ثم قال: وفي الحديث: جواز قيام الطفل مع الرجال في صف واحد، وفيه أيضًا: تأخير النساء عن الرجال، انتهى.
قلت: فإن تأخُّرهنَّ عن الرجال واجب؛ لئلا تفسد صلاة الرجال المحاذين لهنَّ.
فهذا الحديث دليل لما قاله الأئمة الحنفية من أن محاذاة المرأة للرجل في صلاة واحدة يفسد صلاة الرجل وغيره المحاذين لها، وهو حجة على من زعم أنه غير مفسد.
وكذا فيه حجة على من زعم أن محاذاة الطفل للرجل في الصلاة مفسد لصلاة الرجل؛ فإنَّ هذا الحديث صريح في أنها غير مفسدة (١)؛ لقيام اليتيم مع أنس خلف النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فليحفظ.
(فَصَلَّى لَنَا) أي: لأجلنا (رَسُول اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم رَكْعَتَيْنِ) وهي نافلة النهار، لكن الأفضل في النهار أربع، كما في أحاديث غيرها، لكنه عليه السَّلام
(١) في الأصل: (مفسد)، وليس بصحيح.