اقتصر هنا على الركعتين؛ لأنَّ مراده بالصلاة التعليم بالمشاهدة، وبهما يكفي للتعليم، ويحتمل أنه صلى ركعتين، ثم ركعتين، فاقتصر الراوي على الركعتين الأوليين، (ثُمّ َانْصَرَفَ)؛ أي: فرغ من صلاته واستقبال القبلة وذهب إلى بيته، فيستنبط منه أن الخروج من الصلاة بلفظ السلام ليس بواجب؛ لأنَّه قال: (ثم انصرف)، ولم يقل: ثم سلم، لا يقال: المراد منه الانصراف من البيت الذي هو فيه؛ لأنَّا نقول: ظاهره بل صريحه أن المراد منه الانصراف من الصلاة بالمشي واستدبار القبلة.
وفيه: أن المنفرد خلف الصف تصح صلاته؛ بدليل وقوف العجوز في الأخير وحدها، وهو مذهب إمامنا رئيس المجتهدين وأصحابه، وبه قال مالك والشافعي، وقال أحمد وأصحاب الحديث: لا يصح؛ لقوله عليه السَّلام: «لا صلاة للمنفرد خلف الصف»، وأجيب: بأنه أريد به نفي الكمال لا الصحة، يدل عليه قوله عليه السَّلام: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد»، فإنه أريد به نفي الكمال إجماعًا، وهذا مثله؛ فليحفظ.
وفي الحديث: دليل على أن الاثنين يكونان صفًّا وراء الإمام، وهو مذهب الإمام الأعظم وكافة العلماء إلا ما روي عن ابن مسعود أنه قال: يكون الإمام بينهما.
وزعم صاحب «التوضيح» أنه مذهب الإمام الأعظم والكوفيين.
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: مذهبه ليس كذلك، بل مذهبه أنه إذا أمَّ اثنين؛ يتقدم عليهما، وبه قال محمد بن الحسن، واحتجَّا بهذا الحديث المذكور في الباب، نعم؛ روي عن الإمام أبي يوسف أنه يتوسطهما، قال صاحب «الهداية» : (ونقل ذلك عن ابن مسعود).
قلت: هذا موقوف عليه، وقد رواه مسلم من ثلاث طرق، ولم يرفعه في الأوليين، ورفعه إلى النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم في الثالثة، وقال: هكذا فعل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وقال أبو عمر (١) : (هذا الحديث لا يصح رفعه، وأما فعله هو؛ فإنما كان لضيق المسجد)، رواه الحافظ أبو جعفر الطحاوي في «معاني الآثار» بسنده عن ابن سيرين أنه قال: (لا أرى ابن مسعود فعل ذلك إلا لضيق المسجد أو لعذر آخر، لا على أنه من السنة) انتهى.
وفيه دليل على أن الأصل في الحصير ونحوه الطهارة، ولكن النضح فيه إنَّما كان لأجل تليين الحصير أو لإزالة الوسخ عنه كما ذكرنا، وقال القاضي عياض: الأظهر أنه كان للشك في نجاسته، ورده إمام الشَّارحين فقال: هذا مبني على مذهبه من أن النجاسة المشكوك فيها تتطهر بنضحها من غير غسل، وعندنا الطهارة لا تحصل إلا بالغسل، انتهى.
قلت: وما قاله القاضي عياض غير ظاهر فضلًا عن أن يكون أظهر؛ لأنَّ الحصير إنَّما كان طاهرًا، يدل عليه ما في «مسلم» : (فربما تحضر الصلاة، فيأمر بالبساط الذي تحته، فيكنس...)؛ الحديث، فإنه عليه السَّلام لا يجلس إلا على طاهر، فلو كان نجسًا؛ لم يجلس عليه.
وفي «سنن البيهقي» من حديث أبي قلابة عن أنس (أن النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم كان يأتي أم سليم يقيل عندها، وكان يصلي على نطع، وكان كثير العرق، وكانت تتبع العرق من النطع وتجعله في القوارير مع الطيب...)؛ الحديث، فهذا يدل أيضًا على أن الحصير كان طاهرًا؛ لأنَّه كان يعرق عليه وتأخذ العرق منه، فلو كان الحصير نجسًا؛ لم تفعل هكذا، ولم يجلس عليه السَّلام عليه، ولا كان يعرق عليه.
فقوله (والأظهر...) إلى آخره ممنوع، وإنما قاله؛ ترويجًا لما ذهب إليه إمامه، والصواب: أن النضح إنَّما كان لأجل تليين الحصير أو لأجل إزالة الوسخ عنه لتنظيفه؛ يدل عليه أنه قال في الحديث المذكور: (قد اسود) وإنما يسود الحصير من كثرة الاستعمال.
ويدل عليه أيضًا رواية الدارقطني عن أنس قال: (فعمدت إلى حصير عندنا خلق قد اسود)، وفي رواية: (قطعة حصير عندنا خلق) فوصفه بالخلق الذي هو الرث الغير النظيف دليل على أنه قد اسود من كثرة الاستعمال، فالنضح إنَّما كان لأجل إزالة الوسخ لا لأجل الطهارة، فإن الشيء المتنجس لا يطهره إلا الغسل هذا هو الصواب؛ فافهم.
وقال النووي: احتج أصحاب مالك بقوله: (من طول ما لبس) على أن من حلف لا يلبس ثوبًا ففرشه؛ فعندهم يحنث، وأجاب أصحابنا: بأن ليس كل شيء بحسبه، فحملنا اللبس في الحديث على الافتراش في القرينة، ولأنه المفهوم منه، بخلاف من حلف لا يلبس ثوبًا، فإن أهل العرف لا يفهمون من لبسه الافتراش، انتهى.
ورده إمام الشَّارحين فقال: ليس معنى اللبس في الحديث الافتراش، وإنما معناه: التمتع، كما قال أصحاب اللغة: يقال: لبست امرأة؛ أي: تمتعت بها زمانًا طويلًا، وليس هو من اللبس الذي من لبست الثياب، انتهى.
قلت: وما زعمه النووي متناقض، وحمل اللبس في الحديث على الافتراش باطل، ودعواه القرينة دعوى باطلة، ودعواه أنه المفهوم غير صحيح؛ فإن الحديث ليس فيه قرينة على صحة هذه الدعوى، وليس هو بمفهوم منه أيضًا؛ لأنَّه قال في الحديث: (قد اسود من طول ما لبس) وهو يدل على أنه قد استعمل كثيرًا، واستعماله إنَّما كان لأجل الصلاة، والصلاة مكررة ليلًا ونهارًا، لا سيما يعرض عليه الغبار والتراب، فطول اللبس كناية عن كثرة الاستعمال، فإن عادة حصير الصلاة يفرش وقت الصلاة ويقام عند الفراغ منها، ويوضع في مكان آخر، وأصل هذه المادة المخالطة والمداخلة، فـ (لبس) في الحديث ليس من قولهم: لبست الثوب، وإنما هو من قولهم: لبست امرأة؛ أي: تمتعت بها زمانًا طويلًا، فيكون المعنى قد اسودَّ من كثرة مما تمتع به في طول الزمان، يدل عليه ما ذكرناه من رواية الدارقطني: (خلق قد اسود)، فوصفه بالخلق دليل على أنه قد استعمل كثيرًا حتى صار خلقًا مسودًّا، وهذا ظاهر بأدنى تأمل، ولكن النووي وغيره إنَّما ذهب إلى هذا المعنى؛ ترويجًا لما ذهب إليه إمامه من حرمة افتراش الحرير، فارتكب هذا المعنى الغير الصواب، ولو أنصف؛ لقال كما قلنا، ولكن هيهات من صحة كلامه، لأنَّه خلاف ما قاله أهل اللغة على أن قوله: (بخلاف من حلف...) إلى آخره، فإنه ناقض كلامه وقال: (أهل العرف لا يفهمون...) إلى آخره، فإذا كان كذلك؛ فكيف يفهمون من الحديث أن اللبس بمعنى
(١) في الأصل: (عمرو)، ولعل المثبت هو الصواب.