للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

ليلًا (وَرِجْلَايَ) بصيغة التثنية (فِي قِبْلَتِهِ) جملة اسمية وقعت حالًا؛ أي: في مكان سجوده، (فَإِذَا سَجَدَ) عليه السَّلام؛ أي: أراد أن يسجد؛ (غَمَزَنِي) من الغمز باليد، قال الجوهري: غمزت الشيء باليد وغمزته بعيني، قال تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المطففين: ٣٠] والمراد ههنا: الغمز باليد.

وروى أبو داود من حديث أبي سلمة عن عائشة أنها قالت: (كنت أكون نائمة ورجلاي بين يدي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو يصلي من الليل، فإذا أراد أن يسجد؛ ضرب رجلي، فقبضتها فسجد) كذا في «عمدة القاري».

قلت: وهذه الرواية أصرح في المقصود من رواية الباب؛ لأنَّه بيَّن فيها صريحًا أن صلاته عليه السَّلام كانت ليلًا وأنها نفل، وبينت أيضًا أن قوله: (فإذا سجد) على حذف مضاف؛ أي: إذا أراد أن يسجد كما صرحت (١) به هذه الرواية، وبينت أيضًا أن المراد بالغمز: الضرب باليد، وهو موافق لما قاله أصحاب اللغة، وهي أصرح في المعنى وإن كانت رواية الباب المراد بها الغمز باليد؛ فليحفظ.

وزعم القسطلاني عند قوله: (غمزني بيده)؛ أي: مع حائل، انتهى.

قلت: وهذا تفسير منه؛ ترويجًا لما ذهب إليه إمامه، وهو باطل، فإن قوله: (غمزني) يدل على أنه بدون حائل؛ لأنَّه الأصل؛ لأنَّه لو كان؛ لصرحت به، على أنه الرجل واليد عند أهل العرف والتحقيق كانتا بغير حائل، بل بالمس؛ البشرة على البشرة، ويدل لذلك رواية أبي داود؛ فإنها مصرحة بذلك حيث قالت: (ضرب رجلي) ولا يخفى أن الضرب لا يكون بحائل، بل بدون حائل، كما هو التحقيق، فبهذا ظهر أن الصواب ما عليه الإمام الأعظم وأصحابه من أن مس المرأة غير ناقض للوضوء؛ فليحفظ، وسيأتي بقية الكلام عليه إن شاء الله تعالى.

(فَقَبَضْتُ رِجْلَيَّ)؛ بفتح اللام وتشديد الياء؛ بصيغة التثنية، وهذه رواية الأكثرين، وفي رواية المستملي والحمُّوي: (رجلِيْ) بكسر اللام وسكون الياء؛ بصيفة الإفراد، كذا في «عمدة القاري». قلت: ورواية أبي داود بالإفراد أيضًا، والمعنى: أنها قبضتها عن مكان سجوده عليه السَّلام؛ بمعنى: أخرتها عنه (فَإِذَا قَامَ) عليه السَّلام؛ أي: من السجود؛ (بَسَطْتُهُمَا) بضمير التثنية رواية الأكثرين، وفي رواية المستملي والحمُّوي: (بسطتها)؛ بضمير الإفراد؛ كرواية أبي داود؛ يعني: ردتهما إلى مكانهما (وَالْبُيُوتُ) مبتدأ جمع بيت؛ وهو اسم للمكان الذي يبات فيه ليلًا (يَوْمَئِذٍ) معناه: وقتئذ؛ أي: وقتئذ كان الرسول عليه السَّلام حيًّا.

وقوله: (لَيْسَ فِيهَا) أي: البيوت (مَصَابِيحُ) خبر المبتدأ، والجملة حال، والمصابيح جمع مصباح، قال إمام الشَّارحين: وإنما فسرنا قوله: (يومئذ) هكذا؛ لأنَّ المصابيح من وظائف الليل؛ فلا يمكن إجراء اليوم على حقيقة معناه، وقد يذكر اليوم ويراد به الوقت؛ كما في قوله تعالى {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال: ١٦] وهذا اعتذار من عائشة عن نومها على هذه الهيئة، والمعنى: لو كانت المصابيح موجودة؛ لقبضت رجلي عند إرادته السجود ولما أحوجته إلى غمزي بيده، وهذا يدل على أنها كانت راقدة غير مستغرقة، وإلا؛ لما كانت تدرك شيئًا، سواء كانت مصابيح أم لم تكن، انتهى.

ثم قال: وجه مطابقة هذا الحديث للترجمة في قولها: (كنت أنام)؛ لأنَّ نومها كان على الفراش، وقد صرحت في حديثها الآخر بقولها: (على الفراش) الذي ينامان عليه.

ثم قال رضي الله عنه: وفي الحديث أحكام:

الأول: فيه جواز صلاة الرجل إلى المرأة، وأنها لا تقطع صلاته، وكرهه بعضهم لغير الشَّارع؛ لخوف الفتنة بها واشتغال القلب بالنظر إليها، وأما النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فمنزَّه عن هذا كله مع أنه كان في الليل ولا مصابيح فيه.

الثاني: فيه استحباب إيقاظ النائم للصلاة.

الثالث: فيه أن المرأة لا تبطل صلاة من صلى إليها ولا من مرت بين يديه، وهو قول جمهور الفقهاء سلفًا وخلفًا، وهو مذهب الإمام الأعظم رئيس المجتهدين وأصحابه، وبه قال مالك والشافعي، ومعلوم أن اعتراضها بين يديه أشد من مرورها.

وذهب بعضهم إلى أنه يقطعها مرور المرأة والحمار والكلب، وقال أحمد ابن حنبل: يقطعها الكلب الأسود، وفي قلبي من الحمار والمرأة شيء، وقد روي ذلك في الحديث.

والجواب عن حديث قطع الصلاة بهؤلاء من وجهين:

الأول: أن المراد من القطع النقص؛ لشغل القلب بهذه الأشياء الثلاثة، وليس المراد به إبطالها؛ لأنَّ المرأة تغير الفكر فيها، والحمار ينهق، والكلب يهوش، فلما كانت هذه الأشياء آيلة إلى القطع؛ أطلق عليها القطع.

والثاني: أن الحديث منسوخ بحديث: «لا يقطع الصلاة شيء، وادرؤوا ما استطعتم»، وقد صلى الشَّارع وبينه وبين القبلة عائشة رضي الله عنها، وكانت الأتان ترتع بين يديه، ولم ينكره أحد، فدل ذلك على النسخ.

وذهب ابن عباس وعطاء إلى أن المرأة التي تقطع الصلاة إنَّما هي الحائض، ورُدَّ بأنه قد جاء في روايات هذا الحديث، قال شعبة: وأحسبها قالت: (وأنا حائض).

فإن قلت: ورد في الحديث: «يقطع الصلاة اليهودي، والنصراني، والمجوسي، والخنزير».

قلت: هذا حديث ضعيف لا يحتج به، انتهى.

قلت: وقد يقال: إن الصلاة في محل يمر فيه الكلب، والخنزير، والمرأة، واليهودي، والحمار، والنصراني، والمجوسي؛ مكروهة كراهة تنزيه؛ لقول أئمتنا الأعلام: وتكره الصلاة عند كل شيء يشغل البال ويخل بالخشوع؛ فليحفظ.

الرابع: فيه أن العمل اليسير في الصلاة غير قادح، واختلف فيه؛ فذهب الإمام الأعظم إلى أن العمل الكثير واليسير في الصلاة مفوض إلى رأي المصلي إن كان له رأي؛ فإن رآه كثيرًا؛ فكثير، وإن رآه يسيرًا؛ فيسير، وفي رواية عنه وصححها الأئمة المتأخرون: أن الكثير مقدر بثلاث حركات متواليات، وما دونها؛ فيسير، وفي رواية عنه: أن الكثير ما يستكثره الناظر، واليسير ما يستقله، وبالرواية الثانية قال الشافعي وغيره، وحديث الباب يدل لها؛ فافهم.

الخامس: فيه جواز الصلاة إلى النائم، لأنَّه عليه السَّلام كان يصلي في حجرة عائشة وهي نائمة عنده، وكرهه بعضهم؛ لحديث ابن عباس أنه عليه السَّلام قال: «لا تصلوا خلف النائم ولا المتحدث».

وأجاب إمام الشَّارحين فقال: قلت: قال أبو داود روي هذا الحديث من غير وجه عن محمد بن كعب، وطرقه كلها واهية، وهذا مثلها، وهو أيضًا


(١) في الأصل: (صرح)، والمثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>