للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

تأليف خاص وصل فيه إلى أكثر من مئة، والله تعالى أعلم.

(قلت:) وللأربعة: (فقلت) (يا رسول الله؛ لو اتخذنا من مقام إبراهيم) هو خليل الرحمن عليه السَّلام؛ (مصلى)؛ أي: قبلة، قاله الحسن، وذلك بأن جعل المصلى بينه وبين القبلة.

قال إمام الشَّارحين: وجواب (لو) محذوف، ويجوز أن تكون (لو)؛ للتمني، فلا تحتاج إلى جواب، واختلفوا فيه، فقال ابني الصائغ وهشام: هي قسم برأسها لا تحتاج إلى جواب؛ كجواب الشرط، ولكن قد يؤتى لها بجواب منصوب؛ كجواب (ليت)، وقال ابن مالك: هي (لو) المصدرية أغنت عن فعل التمني، انتهى.

وزعم ابن حجر: أنها (لو) الشرطية أشربت معنى: التمني.

قلت: هذا قول ملفق من قولين جعله واحدًا، ونسبه لنفسه، وهو غير ظاهر؛ فافهم.

(فنزلت: {وَاتَّخِذُوا})؛ فيه قراءتان، أحدهما: وهي المشهورة بلفظ الأمر؛ يعني: وقلنا لهم: اتخذوا، والثانية: بلفظ الماضي؛ عطفًا على: {جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخَذُوا}، ({مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}) [البقرة: ١٢٥] : تصلون فيه ركعتي الطواف وغيرهما من الصلوات، كما روي عن مقاتل وقتادة والسدي: أنَّ قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا...}؛ الآية: أمر بالصلاة عند المقام.

وأراد عمر بقوله: لو اتخذنا؛ يعني: أفلا نؤثره؛ لفضله بالصلاة فيه؛ تبركًا وتيمُّنًا بموطئ قدم إبراهيم عليه السَّلام؟ فالخطاب بالاتخاذ إنَّما هو لأمة نبينا النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لا لأمة إبراهيم عليه السَّلام.

والأمر بتعيين المقام للصلاة للاستحباب؛ لانعقاد الإجماع على أنَّ أماكن المسجد الحرام لا تفاوت بينها في حق ركعتي الطواف ولا في غيرهما من الصلوات، فعلم بذلك أن أهل الإجماع حملوا الأمر بتعيُّن المقام للصلاة على الاستحباب، وهو لا ينافي كون ركعتي الطواف واجبة، كما هو مذهب الإمام الأعظم رضي الله عنه؛ فافهم.

والمَقام؛ بفتح الميم، ويجوز أن يكون مصدرًا ميميًّا من قام يقوم، وأن يكون اسمًا لموضع القيام، وهو الموضع الذي يضع عليه الإنسان قدميه حيث يقوم.

والمُقام؛ بضم الميم، موضع الإقامة، ونفس الإقامة أيضًا، والتعريف المستفاد من إضافة المقام إلى إبراهيم للعهد، والمعهود موضعه الذي وضع قدميه حين دعا الناس إلى الحج، أو حين رفع بناء البيت، وذلك الموضع هو الحجر الذي فيه أثر قدميه؛ لأنَّه عليه السَّلام قام عليه حقيقة في ذينك الوقتين، ويطلق لفظ: المقام أيضًا على الموضع الذي كان الحجر فيه حين قام عليه ودعا أو رفع البناء؛ لأنَّ ذلك الموضع وإن كان موضعًا للحجر حقيقة وبالذات؛ فهو موضع لإبراهيم؛ توسعًا وبالواسطة، والمقام المذكور في قول النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: «الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله نورهما»، وفي قول أنس بن مالك: رأيت المقام فيه أصابعه وأخمص قدميه والعقب غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم، فالمراد به: نفس الحجر الذي قام عليه؛ فافهم.

وروى البغوي: (أن إبراهيم عليه السَّلام استأذن سارة أن يزور إسماعيل عليه السَّلام، فأذنت له، وشرطت عليه ألا ينزل، فقدم مكة حتى جاء إلى باب إسماعيل، فقال لامرأته: أين صاحبك؟ فقالت: ذهب يتصيد، ويجيء الآن إن شاء الله، فانزل؛ يرحمك الله، قال: هل عندك ضيافة؟ قالت: نعم، فجاءت باللبن واللحم، وسألها عن عيشتهم، فقالت: نحن بخير وسعة، فدعا لهما بالبركة، ولو جاءت يومئذٍ بخبز أو برٍّ أو شعير أو تمر؛ لكان أكثر أراضي الله برًّا وشعيرًا وتمرًا، فقالت له: انزل حتى أغسل رأسك، فلم ينزل، فجاءته بالمقام، فوضعته عن شقه الأيمن، فوضع قدمه عليه، فغسلت شق رأسه الأيمن، ثم حولته إلى شقه الأيسر، فغسلت شق رأسه الأيسر، فبقي أثر قدميه عليه، فقال لها: إذا جاء زوجك؛ فأقرئيه السلام، وقولي له: قد استقامت عتبة بابك، فلمَّا جاء إسماعيل؛ وجد ريح أبيه، فقال لامرأته: هل جاءك أحد؟ قالت: نعم؛ شيخ أحسن الناس وجهًا وأطيبهم ريحًا، فقال: كذا وكذا، فقلت له: كذا وكذا، وغسلت رأسه، وهذا موضع قدميه، فقال: ذلك إبراهيم عليه السَّلام، وأنت العتبة، أمرني أن أمسكك.

وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ثم لبث ما شاء الله، ثم جاء بعد ذلك، وإسماعيل يبري نباله تحت دوحة قريبًا من زمزم، فلما رآه؛ قام إليه، فصنعا كما يصنع الوالد بالولد، والولد بالوالد، ثم قال: يا إسماعيل؛ إن الله أمرني بأمر تعينني عليه؟ قال: أعينك، قال: إنَّ الله أمرني أن أبني هنا بيتًا، فعند ذلك رفع القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة، وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء؛ جاء بهذا الحجر، فوضعه له، فقام إبراهيم على حجر المقام وهو يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة) انتهى، والله أعلم.

وتوجيه القراءتين في {وَاتَّخِذُوا} : أن يقال: {وَاتَّخَذُوا} بلفظ الماضي، فمقام إبراهيم: البيت الذي بناه، وهو الكعبة، والمصلى: القبلة؛ لأنَّ الناس سواء حمل على العموم أو خص بالذاكرين لا يصح أن يخبر عنهم بأنَّهم اتخذوا الحجر المعهود أو موضعه صلاة أو دعاء؛ بمعنى: أنَّهم يصلون فيه أو يدعون؛ لأنَّ اتخاذه كذلك إنَّما هو من أحكام شريعتنا ليس شريعة قديمة مثل كون البيت مثابة، فلا جرم أنَّ معنى (المصلى) : الموضع الذي يصلى إليه، فإنَّ موضع الصلاة أعم من الموضع الذي يصلى فيه، ومن الموضع الذي يصلى إليه، واستلزم ذلك أن يقال: مقام إبراهيم: هو الكعبة؛ لأنَّ المتوجه إليه في الصلاة إنَّما هو الكعبة بعينها، وسميت بمقام إبراهيم؛ لاهتمامه بها؛ من حيث إنه بناها بنفسه بمعاونة ابنه إسماعيل.

وأمَّا إذا قرئ بلفظ الأمر؛ فيصح أن يجعل (المصلى)؛ بمعنى: ما يصلى فيه، وأن يجعل (المقام)؛ بمعنى: موضع القدمين؛ إذ لا مانع من أن يؤمر جميع الناس بأن يصلوا فيه، وإن لم يصحَّ أن يخبر عنهم بأنَّهم صلوا فيه، ويكون لفظ: (مقام إبراهيم) على قراءة الماضي موضوعًا موضع ضمير البيت؛ للإشارة إلى أنَّ

<<  <   >  >>