للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

علة اتخاذهم إياه قبلة إضافتُه إلى إبراهيم عليه السَّلام؛ من حيث إنَّه بناه بأمر الله تعالى، وروى ابن عباس أنَّه عليه السَّلام قال: «إنَّ لله في كل يوم وليلة مئة وعشرين رحمة تنزل على هذا البيت؛ ستون للطائفين، وأربعون للمصلين، وعشرون للناظرين» انتهى «حواشي شيخ زاده».

(وآية الحجاب)؛ كلام إضافي يجوز فيه: الرفع والنصب والجر، أمَّا الرفع؛ فيحتمل وجهين؛ أحدهما: بالابتداء محذوف الخبر، تقديره: وآية الحجاب كذلك، والآخر: أن يكون معطوفًا على مقدر، تقديره: هو اتخاذ المصلى وآية الحجاب، وأمَّا النصب؛ فعلى الاختصاص، وأمَّا الجر؛ فعلى أنه معطوف على مجرور مقدر، وهو بدل من (ثلاث)، تقديره: في ثلاث: اتخاذ المصلى وآية الحجاب، كذا قرره إمام الشَّارحين.

(قلت: يا رسول الله) أي: قال عمر لرسول الله: (لو أمرت نساءك أن يحتجبن)؛ أي: يتسترن عن غير أزواجهن من الأجانب؛ (فإنَّه يكلِّمهنَّ) الفاء؛ للسببية (البَر)؛ بفتح الموحدة، صفة مشبهة، من بررت أبر، من باب علم يعلم، فأنا برٌّ وبارٌّ، ويجمع (البرُّ) على (أبرار)، و (البارُّ) على (البررة)؛ وهو ما قابل الفاجر، (والفاجر)؛ من الفجور، يقال: فجر فجورًا: فسق، وفجر: كذب، وأصله الميل، فالفاجر: المائل عن الحق.

(فنزلت آية الحجاب) هي: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ} [الأحزاب: ٥٩]، قال قتادة: (توفي النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم عن تسع؛ خمس من قريش: عائشة، وحفصة، وأم حبيبة، وسودة، وأم سلمة، وثلاث من سائر العرب: ميمونة، وزينب بنت جحش، وجويرية (١)، وواحدة من بني هارون: صفية، وأمَّا أولاده؛ فالقاسم، وعبد الله، والطاهر، والطيب، وفاطمة، وزينب، ورقية، وأم كلثوم؛ كلهم من خديجة، وإبراهيم من مارية القبطية، وجميع أولاده عليه السَّلام ماتوا في حياته غير فاطمة، وكانت عادة العربيات التبذل، وكن يكشفن وجوههن كما يفعل الإماء، وكان ذلك داعية إلى نظر الرجال إليهن، وتشعب الفكرة فيهنَّ، فأحب عمر أن يأمر الله ورسوله بإرخاء الجلابيب عليهنَّ إذا أردنالخروج إلى حوائجهنَّ، وكن يتبرزن في الصحراء قبل أن تتخذ الكنف، فيقع الفرق بينهن وبين الإماء، فتعرف الحرائر بسترهن، فيكف عن معارضتهن من كان عزبًا شابًّا، وكانت المرأة من نساء المؤمنين قبل نزول هذه الآية تبرز للحاجة، فتعرض لها بعض الفساق يظن أنها أمة، فتصيح به، فيذهب، فشكوا ذلك للنبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، فنزلت الآية المذكورة)، والجلابيب: جمع جُلباب؛ بضم الجيم، وهو ثوب أكبر من الخمار، وروي عن ابني عباس ومسعود: أنَّه الرداء، وقيل: إنَّه القناع، والصحيح: أنَّه الثوب الذي يستر جميع البدن، وفي «الصحيحين» عن أم عطية قلت: يا رسول الله؛ إحدانا لا يكون لها جلباب، قال: «لتلبسها صاحبتها من جلبابها»، وفيهما عنه عليه السَّلام أنه قال: «رُبَّ كاسية في الدنيا عارية في الآخرة»، وثبت عنه أنَّه قال: «نساء كاسيات، عاريات، مائلات، مميلات، رؤوسهن مثل أسنمة البخت، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها»، وكان عمر رضي الله عنه إذا رأى أمَة قد تقنعت ضربها بالدرة؛ محافظة على زيِّ الحرائر، فانظر هذا الزمان الذي كثر فيه الفساد، وأبيحت الخمور، والولد متلف، والبيت مدلف، والرأي مخلف، والعبد مسرف، والقلب خراب، والخطأ صواب، والزنى فاش، والرياء ماش، والإمام داش، والقاضي راش، والصوفي عكر، والصافي كدر، والملك لاه، والوزير ساه، فلا حول ولا قوة إلا بالله، فيجب على كل راع أن يمنع النساء من الخروج والركوب على السروج؛ فافهم، والله أعلم.

(واجتمع نساء النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: الذين دخل بهن، والذين عقد عليهن ولم يدخل بهن، والذين خطبهن ولم يتم نكاحه معهن، ومجموعهن نيف وثلاثون، كما بسطه القرطبي في «تفسيره».

(في الغيرة عليه)؛ بفتح الغين المعجمة، وهي الحمية والأنفة، يقال: رجل غيور وامرأة غيور؛ بلا هاء؛ لأنَّ فعولًا يشترك فيه الذكر والأنثى، يقال: غرت على أهلي أغار غيرة، فأنا غائر وغيور؛ للمبالغة، كذا قاله إمام الشَّارحين.

(فقلت) أي: قال عمر (لهن: عسى ربه إن طلقكن)؛ يعني: لتنتهن عن ذلك، وإلا؛ فعسى ربه إن طلقكن (أن يبدله أزواجًا خيرًا منكنَّ).

فإن قلت: المبدلات خير (٢) منهن، ولم يكن على وجه الأرض نساء خير من أمهات المؤمنين.

قلت: إذا طلقهن عليه السَّلام؛ لعصيانهن له، وإيذائهن إياه؛ لم يبقين على تلك الصفة، وكان غيرهن من الموصوفات بهذه الأوصاف مع الطاعة له عليه السَّلام، والنزول على رضاه وهواه خيرًا منهن، ولهذا قال تعالى: {مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} [التحريم: ٥]، وإنَّما أخليتْ هذه الصفات كلها عن العاطف ووسط بين الثيبات والأبكار؛ لأنَّهما صفتان متنافيتان لا يجمعن فيهما اجتماعهن في سائر الصفات، فلم يكن بدٌّ من الواو، قاله الإمام جار الله في «كشافه».

وقال الإمام حافظ الدين النسفي: (الآية واردة في الإخبار عن المقدرة لا عن الكون في الوقت؛ لأنَّه عزَّ وجلَّ قال: {إِن طَلَّقَكُنَّ}، وقد علم أنَّه لا يطلقهن، وهذا كقوله: {وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ...}؛ الآية [محمد: ٣٨]، فهذا إخبار عن القدرة، وتخويف لهن لا أن في الوجود من هو خير من أمَّة محمد النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم) انتهى.

(فنزلت هذه الآية)؛ أي: المذكورة، قال إمام الشَّارحين: ومطابقة هذا الحديث للترجمة في الجزء الأول، وهو قوله: (لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى)، والمراد بـ (المقام) : الكعبة على قول، وهي قبلة، والباب في ما جاء في القبلة، وعلى قول من فسر المقام بالحرم؛ فالحرم كله قبلة في حق الآفاقيين، والباب في أمور القبلة، وأمَّا على قول من فسر المقام بالحجر الذي وقف عليه إبراهيم؛ فتكون المطابقة للترجمة بتعلقه


(١) في الأصل: (وجويرة)، وليس بصحيح.
(٢) في الأصل: (خيرًا)، ولعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>