للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

بالمتعلق بالقبلة لا بنفس القبلة، انتهى.

ثم قال رضي الله عنه: (ويستنبط من الحديث أحكام، وهي على ثلاثة أنواع، كما صرح بها الحديث:

الأول: سؤال عمر رضي الله عنه من رسول الله عليه السَّلام أن يتخذ من مقام إبراهيم مصلًّى.

وزعم الخطابي أنَّ عمر سأل أن يجعل ذلك الحجر الذي فيه أثر مقامه مصلًّى بين يدي القبلة يقوم الإمام عنده، فنزلت الآية.

وزعم ابن الجوزي فإن قلت: ما السر في أنَّ عمر لم يقنع بما في شرعنا حتى طلب الاستنان بملة إبراهيم، وقد نهاه النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم عن مثل هذا حين أتى بأشياء من التوراة؟

والجواب: أنَّ عمر لما سمع قوله تعالى في إبراهيم: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: ١٢٤]، ثم سمع: {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} [النحل: ١٢٣]؛ علم أن الائتمام به مشروع في شرعنا دون غيره، ثم رأى أن البيت مضاف إليه، وأنَّ أثر قدمه في المقام كرقم اسم الباني في البناء؛ ليُذكر به بعد موته، فرأى الصلاة عند المقام كقراءة الطائف بالبيت اسم من بناه) انتهى.

قال إمام الشَّارحين: (ولم تزل آثار قدمي إبراهيم عليه السَّلام ظاهرة فيه معروفًا عند العرب في جاهليتها، ولهذا قال أبو طالب في «قصيدته اللامية» المعروفة:

وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة... على قدميه حافيًا غير ناعل

وقد أدرك المسلمون ذلك فيه أيضًا، كما قال عبد الله بن وهب: أخبرني يونس، عن الزهري: أن أنس بن مالك حدثهم قال: رأيت المقام فيه أصابعه عليه السَّلام أخمص قدميه غير أنَّه أذهبه مسح الناس بأيديهم، وقال ابن جرير: حدثنا بشر بن معاذ: حدثنا يزيد بن زريع: حدثنا سعيد عن قتادة: {وَاتَّخِذُوا...}؛ الآية [البقرة: ١٢٥]، قال: إنَّما أمروا أن يصلوا عنده، ولم يؤمروا بمسحه، ولقد تكلفت هذه الأُمَّة شيئًا ما تكلفته الأمم قبلها، ولقد ذكر لنا من رأى أثر عقبه وأصابعه فيها، فما زالت هذه الأمَّة يمسحونه حتى اخلولق وانمحى) انتهى.

(النوع الثاني: الحجاب، فكان عليه السَّلام جاريًا فيه على عادة العرب، ولم يكن يخفى عليه عليه السَّلام أنَّ حجبهن خير من غيره، لكنَّه كان ينظر الوحي؛ بدليل أنَّه لم يوافق عمر حين أشار بذلك)، قاله القرطبي.

قلت: وحديث الباب يردُّ عليه؛ لأنَّ عمر رضي الله عنه لما سأل رسول الله عليه السَّلام أن يحجب نساءه؛ لم يحصل بينهما عدم موافقة ولا إشارة بالعدم، بل عقب سؤال عمر نزل الحجاب؛ بدليل عليه قوله: (فنزلت آية الحجاب)، فأتى بالفاء التعقيبية؛ إشارة إلى عدم وقوع المهلة بينهما، بل عقب السؤال نزل الحجاب، ويدل عليه أيضًا ما رواه أبو داود الطيالسي: عن أنس قال: قال عمر: (وافقت ربي في أربعة...)؛ الحديث، وفيه: قلت: يا رسول الله؛ لو ضربت على نسائك الحجاب؛ فإنَّه يدخل عليهن البرُّ والفاجر، فأنزل الله عزَّ وجلَّ: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: ٥٣]»، وهذا يدل على أنَّه لم يقع بينهما إشارة بعدم الموافقة، بل كان عليه السَّلام يحب في نفسه نزول الحجاب، ولم يأمر به ولم ينه عنه حتى نزلت الآية؛ فافهم.

قال إمام الشَّارحين: (وكان الحجاب في السنة الخامسة، قاله قتادة، وقيل: في السنة الثالثة، وهو قول أبي (١) عبيدة يعمر بن المثنى، وعند ابن سعد: أنَّه في ذي القعدة سنة أربع، وكان السبب في ذلك أنه لما تزوج زينب بنت جحش؛ أولم عليها، فأكل جماعة، وهي مولية بوجهها إلى الحائط ولم يخرجوا، فخرج رسول الله عليه السَّلام ولم يخرجوا، وعاد ولم يخرجوا، فنزلت آية الحجاب) انتهى.

قلت: وعلى هذا؛ فيكون نزول الحجاب سنة خمس؛ لما رواه الدارقطني: أنَّه عليه السَّلام تزوج زينب بالمدينة في سنة خمس من الهجرة، وتوفيت سنة عشرين، وهي بنت ثلاث وخمسين، ذكره القرطبي، وقال القاضي عياض: (أمَّا الحجاب الذي خص به زوجات النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فهو فرض عليهن بلا خلاف في الوجه والكفين، فلا يجوز لهن كشف ذلك لشهادة ولا لغيرها، ولا إظهار شخصهن، كما فعلت حفصة يوم مات أبوها، ستر شخصها حين خرجت، وبنيت عليها قبة لما توفيت، قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ}) انتهى.

قلت: وهذه الآية عامة شاملة لجميع النساء، فالله سبحانه أمر الجميع (٢) بالتستر، وأنَّ ذلك لا يكون إلا بما لا يصف (٣) جلدها إلا إذا كانت مع زوجها؛ فيجب الستر والتقنع في حق الجميع من الحرائر والإماء، وهذا كما أن أصحاب رسول الله عليه السَّلام منعوا النساء المساجد بعد وفاته عليه السَّلام مع قوله: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله»، حتى قالت عائشة رضي الله عنها: لو عاش رسول الله عليه السَّلام إلى وقتنا هذا؛ لمنعهنَّ من الخروج إلى المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل.

قلت: فيجب في زماننا المنع مطلقًا، سواء كان خروجهن للمساجد أو لغيرها؛ لفساد الزمان؛ فافهم.

النوع الثالث: اجتماع نساء النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم في الغيرة عليه، وهو ما ذكره البخاري في تفسير سورة البقرة، حدثنا مسدد، عن يحيى، عن حميد، عن أنس قال: قال عمر: وافقت ربي في ثلاث، أو وافقني ربي في ثلاث، فقلت: يا رسول الله؛ يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب، قال: وبلغني معاتبة النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم بعض نسائه، فدخلت عليهن، قلت: إن انتهيتن أو ليبدلن الله رسوله خيرًا منكن، حتى أتيت إحدى نسائه؛ فقالت: يا عمر؛ أمَا في رسول الله عليه السَّلام ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت؟ فأنزل الله: {عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ...}؛ الآية [التحريم: ٥]، وأخرج في سورة التحريم: حدثنا عمرو بن عون: حدثنا هشيم عن حميد، عن أنس قال: قال عمر: اجتمع نساء النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم في الغيرة عليه، فقلت لهن: عسى ربه إن طلقكنَّ أن


(١) في الأصل: (أبو)، وليس بصحيح.
(٢) في الأصل: (حميع)، والمثبت هو الصواب.
(٣) في الأصل: (لا يوصف)، ولعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>