للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

بصرية تقتضي مفعولين؛ أحدهما: قوله: (نُخَامَة)؛ بضمِّ النون، وفتح الخاء المعجمة والميم، بينهما ألف، وهي النخاعة، يقال: تنخم الرجل: إذا تنخع، وفي «المطالع» : (النخامة: ما يخرج من الصدر، والبصاق: ما يخرج من الفم، والمخاط: ما يسيل من الأنف)؛ كذا في «عمدة القاري»، فما زعمه القسطلاني من أنَّها: (ما يخرج من الرأس) خطأ ظاهر؛ لأنَّ الذي يخرج من الرأس هو المخاط لا النخامة؛ فافهم، (في القبلة) : هو على حذف تقديره: في حائط المسجد الذي في جهة القبلة، والمفعول الثاني: محذوف تقديره: ملقاة في القبلة؛ فافهم.

(فشق ذلك عليه)؛ يعني: كره عليه السَّلام هذا الفعل (حتى رُؤِيَ)؛ بضمِّ الراء، وكسر الهمزة، وفتح التحتية، وللأصيلي وأبي ذر: (حتى رِيْء)؛ بكسر الراء وسكون التحتية آخره همزة؛ أي: شوهد أثر المشقة (في وجهه) المنير، وفي رواية المؤلف في «الأدب» من حديث ابن عمر: (فتغيظ على أهل المسجد)، وعند النسائي عن أنس قال: رأى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم نخامة في قبلة المسجد، فغضب حتى احمر وجهه، فقامت امرأة من الأنصار، فحكتها، وجعلت مكانها خلوفًا، قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «ما أحسن هذا!»، وفي كتاب أبي نعيم: «من ابتلع ريقه؛ إعظامًا للمسجد، ولم يمح اسمًا من أسماء الله ببزاق؛ كان من خيار عباد الله»، وذكر ابن خالويه عن أنس: أنَّ النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لما رأى نخامة في المحراب؛ قال: «من إمام هذا المسجد؟»، قالوا: فلان، قال: «قد عزلته»، فقالت امرأته: لم عزل النبيُّ زوجي عن الإمامة؟ فقال: رأى نخامة في المسجد، فعمدت إلى خلوف طيب، فخلَّقت به المحراب، فاجتاز عليه السَّلام بالمسجد، فقال: «من فعل هذا؟» قال: امرأة الإمام، قال: «قد وهبت ذنبه لامرأته، ورددته إلى الإمامة»، فكان هذا أول خلوق كان في الإسلام؛ كذا في «عمدة القاري»، (فقام) عليه السَّلام، (فحكه) أي: أثر النخامة (بيده) الشريفة.

فإن قلت: في الحديث الحك باليد من غير ذكر آلة، وكذلك الترجمة.

قلت: وقوله في الحديث: «بيده» وفي الترجمة باليد أعم من أن يكون فيها آلة أو لا، على أنَّ أبا داود روى عن جابر قال: (أتانا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في مسجدنا، وفي يده عرجون ابن طاب، فنظر، فرأى في قبلة المسجد نخامة، فأقبل عليها، فحتها بالعرجون...)؛ الحديث، فهذا يدل على أنَّه باشر بيده بعرجون فيها، والعُرجون-بضمِّ العين المهملة-: وهو العود الأصفر الذي فيه الشماريخ إذا يبس واعوج، وهو من الانعراج، وهو الانعطاف، وجمعه: عراجين، والواو والنون فيه زائدتان، وقوله: (ابن طاب) : هو رجل من أهل المدينة ينسب إليه نوع من تمر المدينة، ومن عادتهم أنَّهم ينسبون ألوان التمر كل لون إلى أحد، ومع هذا يحتمل تعدد القصة، كذا قاله إمام الشَّارحين.

قلت: والظاهر أنَّ القصة متعددة، والأصل في اليد أن تكون بغير آلة، وقد يقال: يحتمل اتحاد القصة، ويكون الحديث المطلق هنا هو المقيد عند أبي داود، فهو من باب حمل المطلق على المقيد؛ فتأمل.

(فقال) عليه السَّلام، ولابن عساكر: (وقال) : (إن أحدكم إذا قام في صلاته) الفرق بين قام في الصلاة، وقام إلى الصلاة: أن الأول: يكون بعد الشروع، والثاني: عند الشروع، قاله في «عمدة القاري»، (فإنَّه يناجي ربه) عزَّ وجلَّ، والمناجاة والنجوى؛ هو السر بين الاثنين، يقال: ناجيته؛ أي: ساررته، وكذلك: نجوته نجوًا، ومناجاة الرب مجاز؛ لأنَّ القرينة صارفة عن إرادة الحقيقية؛ إذ لا كلام محسوسًا بينهما إلا من طرف العبد، فيكون المراد لازم المناجاة، وهو إرادة الخير، ويجوز أن يكون من باب التشبيه؛ أي: كأنه يناجي ربه، والتحقيق فيه: أنَّه شبه العبد وتوجهه إلى ربه تعالى في الصلاة وما فيها من القراءة، والأذكار، وكشف الأسرار، واستنزال رحمته، ورأفته، مع الخضوع والخشوع بمن يناجي مولاه ومالكه، فمن شرائط حسن الأدب: أن يقف محاذيه، ويطرق رأسه، ولا يمد بصره إليه، ويراعي جهة إمامه حتى لا يصدر من تلك الهيئات شيء وإن كان الله منزهًا عن الجهات؛ لأنَّ الآداب الظاهرة والباطنة مرتبط بعضها ببعض، قاله إمام الشَّارحين.

قلت: فيكون المعنى على الأول: أنَّ العبد في صلاته يطلب الرحمة، والبركة، والعفو، والغفران، ودخول الجنان من خالقه بفضله تعالى.

(أو أن)؛ بفتح الهمزة وكسرها؛ كما في «اليونينية»، ولأبي ذر عن الحمُّوي والمستملي: (وأن)؛ بواو العطف، ورواية الأكثرين بالشك (ربه)؛ أي: اطلاع أو رحمة ربه على ما (بينه وبين القبلة) فإنَّ هذا الكلام لا يصح على ظاهره؛ لأنَّ الله تعالى منزه عن الحلول في المكان، فالمعنى على التشبيه؛ أي: فإنَّه بينه وبين القبلة، قاله الشَّارح، وقال الخطابي: (معناه: أنَّ توجهه إلى القبلة مفضٍ بالقصد منه إلى ربه، فصار في التقدير: كأنَّه مقصوده بينه وبين قبلته، فأمر أن تصان تلك الجهة عن البزاق ونحوه من أثقال البدن)، وقال ابن بطال: (وظاهر هذا محال؛ لأنَّ الرب منزَّه عن المكان، فيجب على المصلي إكرام قبلته بما يكرم به من يناجيه من المخلوقين عند استقبالهم بوجهه، ومن أعظم الجفاء وسوء الأدب أن تتنخم في توجهك إلى رب الأرباب، وقد أعلمنا الله بإقباله على من توجه إليه) انتهى.

(فلا يبزقنَّ)؛ بنون التوكيد الثقيلة، وللأصيلي: (فلا يبزق)؛ بإسقاطها (أحدكم)؛ أي: المخاطبون، وهم الصحابة رضي الله عنهم، وليس المراد التخصيص، بل المراد عموم جميع الأمة، كما لا يخفى (قِبَل) بكسر القاف، وفتح الموحدة؛ أي: جهة (قبلته) : التي عظمها الله تعالى، فلا تقابل بشيء يقتضي الاحتقار والاستخفاف بها؛ كالبزاق وغيره، فإنَّ الله تعالى جعله مرجعًا للزائرين من حيث إنَّهم لا يقضون منه وطرًا بزيارته مرة أو مرتين، بل كلما أتوه وانصرفوا عنه؛ اشتاقوا إلى الرجعة إليه؛ لما اعتقدوا في زيارته من الفوائد المتعلقة بمحو الخطيئات ورفع الدرجات ما لم يعتقدوا مثله في سائر الأعمال، ويدل عليه قوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ...} إلى أن قال

<<  <   >  >>