للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ...}؛ الآيات [البقرة: ١٢٥]، ولأنَّ الجلوس في المسجد الحرام ناظرًا إلى الكعبة من جملة العبادات المرضية؛ بدليل ما روي عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إنَّ لله في كل يوم وليلة مئة وعشرين رحمة، تنزل على هذا البيت ستون للطائفين، وأربعون للمصلين، وعشرون للناظرين»، وجعله تعالى أمنًا من القحط، ومن الجدب، والخسف، والمسخ، والزلازل، والغارات، والجنون، والجذام، والبرص، ونحوها من البلايا التي تخل بالبلد، وجعل سبحانه من التجأ إليه آمنًا من القتل، ومن الأسباب الموجبة للقتل، فمن جنى خارج الحرم، كما لا يقتل في الحرم؛ لا يخرج منه ليقتل خارج الحرم عند الجمهور، (ولكن) يبزق (عن يساره)؛ أي: لا عن يمينه؛ تشريفًا لليمين، ولا أمامه؛ تشريفًا للقبلة، وجاء في رواية البخاري: (فإنَّ عن يمينه ملكًا)، وعند ابن أبي شيبة بسند صحيح: «لا يبزق عن يمينه؛ فعن يمينه كاتب الحسنات، ولكن يبزق عن شماله أو خلف ظهره»، وقوله: (فإنَّ عن يمينه ملَكًا) دليل على أنَّه لا يكون حالتئذٍ عن يساره ملَك؛ فإنَّه في طاعة، لا يقال: يخدشه قوله عليه السَّلام: «إنَّ الكرام الكاتبين لا يفارقان العبد إلا عند الخلاء والجماع»؛ لأنَّا نقول: هذا حديث ضعيف لا يحتج به، قاله إمام الشَّارحين.

(أو تحت قدميه)؛ بالتثنية، ولأبوي ذر والوقت وابن عساكر: (قدمه)؛ بالإفراد؛ يعني: اليسرى؛ كما في حديث أبي هريرة في الباب الذي بعده، وزاد أيضًا من طريق همام عن أبي هريرة: (فيدفنها)، كما سيأتي، وزعم النووي أنَّ هذا في غير المسجد، أمَّا فيه؛ فلا يبزق إلا في ثوبه، انتهى.

قلت: يرده سياق الحديث؛ لأنَّه يدل على أنَّه في المسجد، ويدل عليه حديث أبي هريرة: أنَّه يدفنها، فدل هذا على أنَّه في المسجد، وأنَّ كفارتها دفنها، وسيأتي؛ فافهم.

(ثم أخذ) عليه السَّلام (طرف رِدائه)؛ بكسر الراء؛ هو ما يتزر به للنصف الأعلى، (فبصق فيه) بالصاد المهملة، (ثم رد بعضه على بعض) : ففيه البيان بالفعل؛ ليكون أوقع في نفس السامع؛ فافهم.

(فقال) عليه السَّلام: (أو يفعل هكذا) : عطف على المقدر بعد حرف الاستدراك؛ أي: ولكن يبزق عن يساره أو يفعل هكذا، وليست كلمة (أو) ههنا للشك، بل للتنويع؛ ومعناه: أنَّه مخير بين هذا وهذا، قاله إمام الشَّارحين، واعترضه القسطلاني، فزعم أنَّه سيأتي أنَّ المؤلف حمل هذا الأخير على ما إذا بدره البزاق، وحينئذٍ فـ (أو) للتنويع، انتهى.

قلت: مراده أنَّ إمام الشَّارحين جعل (أو) للتنويع؛ أي: التخيير بين الثلاثة، وهو ظاهر حديث الباب، وأنَّ المؤلف جعل التخيير في الأوليين، وحمل الثالث على ما إذا بدره البزاق.

قلت: واعتراضه مردود عليه، فإنَّ المؤلف قد جعل هذا ترجمة في باب سيأتي، وذكر حديثه، والحديث ليس فيه مطابقة لما ترجم له؛ لأنَّه ليس فيه ذكر أنَّه بدره البزاق، فالحمل من عنده، وهو مخالف لصريح أحاديث الأبواب الآتية، فلا يعتد به، نعم؛ لو كان مذكورًا في الحديث؛ فهو مقبول، والبحث في النقول غير مقبول على أنَّ ظاهر الأحاديث بل صريحها أنَّ التخيير في الثلاثة مطلقًا، سواء بدره البزاق أو لا، كما لا يخفى؛ فافهم.

قال إمام الشَّارحين: (وفي الحديث: تعظيم المساجد عن أثقال البدن، وعن القاذورات بالطريق الأولى، وفيه: احترام جهة القبلة، وفيه: إزالة البزاق وغيره من الأقذار من المسجد، وفيه: إذا بزق؛ يبزق عن يساره، ولا يبزق أمامه؛ تشريفًا للقبلة، ولا عن يمينه؛ تشريفًا لليمين، واعلم أنَّ البصاق في المسجد خطيئة مطلقًا، سواء احتاج إليه أم لا، فإن احتاج؛ يبزق في ثوبه (١)، فإن بزق في المسجد؛ يكون خطيئة، وعليه أن يكفر هذه الخطيئة بدفنها) انتهى.

قلت: والظاهر أنَّ الذي أُعدَّ في المسجد من زمن واقفه؛ كالحياض المعدة للوضوء في المساجد، فإنَّه لو بزق في مجاريها؛ لا بأس به، أمَّا ما حدث بعد الواقف كالبحرة التي وسط برَّاني الجامع الشريف الأموي، والحنفيات المتخذة في جُوَّانيه؛ فالظاهر أنَّه لا يجوز البساق فيها؛ لأنَّ مكانها كان مسجدًا، فإنَّ الأولى أحدثها عثمان باشا، والثانية من وصية داود باشا، فكان البازق يبزق في المسجد، فلا يجوز، وهذا غفلة عظيمة من علمائنا الشاميين؛ فافهم.

وقول القاضي عياض: (البزاق في المسجد ليس بخطيئة إلا في حق من لم يدفنه، أمَّا من أراد دفنه؛ فليس بخطيئة)، رده إمام الشَّارحين بأنَّه غير صحيح، والحق ما ذكرناه، انتهى.

قلت: يعني: أنَّه خطيئة مطلقًا؛ لأنَّه عليه السَّلام لما رآه في حائط المسجد؛ حكه وأزاله، وهو دليل على أنَّها خطيئة، كما سيأتي.

واختلفوا في المراد بدفنه؛ فذهب الإمام الأعظم والجمهور: إلى أنَّ دفنه بتراب المسجد ورمله وحصبائه إن كانت هذه الأشياء فيه؛ وإلا؛ فيخرجها من المسجد.

قلت: وإلقاؤها في فعله ونحوه دفن لها، كما لا يخفى.

وزعم أصحاب الشافعي أنَّ عليه إخراجها مطلقًا، وقيل: إن لم تكن المساجد تربة وكانت ذات حصر؛ فلا يجوز إلقاؤها، وفي الحديث: دليل على أنَّ البزاق طاهر، وكذا النخامة، وليس فيه خلاف إلا ما حكي عن إبراهيم النخعي أنَّه يقول: (البزاق نجس)، وقال القرطبي: (الحديث دال على تحريم البصاق في القبلة، وأنَّ الدفن لا يكفيه).

ورده إمام الشَّارحين فقال: (هو كما قال، وأنَّ في دفنه كفارته).

قلت: يعني: أنَّ النهي في الحديث يقتضي التحريم، وأنَّ الدفن يكفي؛ لأنَّه عليه السَّلام صرح بأنَّ الدفن يكفي، ولا فرق فيه بين أن يكون في ثوبه أو في التراب ونحوه؛ فافهم.

قال إمام الشَّارحين: (وقيل: النهي للتنزيه، والأصح أنَّه للتحريم).

قلت: ويدل عليه إطلاق النهي في الحديث، فإنَّه يقتضي التحريم، ويدل عليه ما في «صحيح ابن خزيمة» و «صحيح ابن حبان» من حديث حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «من تفل تجاه القبلة؛ جاء يوم القيامة وتفله بين عينيه»، وفي رواية لابن خزيمة من حديث ابن عمر مرفوعًا: «يبعث صاحب النخامة في القبلة يوم القيامة وهي في وجهه»، وروى أبو داود من حديث أبي سهلة السائب بن خلاد قال: من أصحاب النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم


(١) زيد في الأصل: (في ثوبه).

<<  <   >  >>