للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

ذلك؛ لينبهه على أن أحدًا لا يحمل عن أحد شيئًا، وفي المَثَل: كل عنزة معلقة من عرقوبها.

(فنَثَر)؛ بفتح النون، والثاء (١) المثلثة؛ أي: صب العبَّاس (منه) أي: من المال الذي أخذه، (ثم ذهب يُقله)؛ بضمِّ التحتية، من الإقلال؛ وهو الرفع والحمل؛ (يعني: فلم يستطع) حمله؛ لثقله، (فقال) العبَّاس: (يا رسول الله؛ اؤمر)؛ بضمِّ الهمزة الأولى، وسكون الثانية، وفي رواية الأصيلي وابن عساكر: (مر) على وزن (عل)، كما سبق (بعضهم) أي: بعض الحاضرين (يرفعه)؛ بياء المضارعة، والرفع على الاستئناف، والجزم؛ جوابًا للأمر، (قال: لا) آمر بذلك، (قال: فارفعه أنت عليَّ) بفتح التحتية، (قال: لا) أرفعه عليك، (فنثر) أي: صب العبَّاس (منه)؛ أي: من المال، (ثم احتمله) أي: رفعه بنفسه (فألقاه على كاهله)؛ هو ما بين كتفيه؛ لأنَّه حينئذٍ خَفَّوأمكن رفعه وحمله، (ثم انطلق)؛ أي: العبَّاس يمشي فيه، (فما زال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يُتْبِعه)؛ بضمِّ التحتية، وسكون الفوقية، وكسر الموحدة، من الإتباع؛ أي: لم يزل عليه السَّلام يتبع العبَّاس (بصره حتى خفي علينا)؛ يعني: لم نره (عجبًا من حرصه)؛ يعني: تعجب من حرصه على المال، وانتصاب (عجبًا) على أنه مفعول مطلق من قبيل ما يجب حذف عامله، ويجوز أن يكون منصوبًا على أنه مفعول له، (فما قام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: من ذلك المجلس، (وثَم) بفتح المثلثة؛ أي: هنالك (منها) أي: من الدراهم الآتية من البحرين (درهم)؛ بالرفع: مبتدأ، وخبره قوله: (منها) مقدمًا، والجملة وقعت حالًا، والمقصود منه: إثبات القيام عند انتفاء الدرهم؛ إذ الحال قيدللمنفي (٢) لا للنفي، والمجموع مُنْتَفٍ بانتفاء القيد؛ لانتفاء المقيد وإن كان ظاهره نفي القيام حال ثبوت الدرهم، قاله إمام الشَّارحين، وتبعه الشراح.

وذكره البرماوي بعينه، ونسبه لنفسه، فخفي على القسطلاني، فزعم أنَّ بين الكلامين تغايرًا (٣)، وليس كذلك، بل أصل العبارةلإمام الشَّارحين؛ فافهم.

قال إمامنا الشَّارح: (فإن قلت: الترجمة مشتملة على شيئين؛ أحدهما: القسمة في المسجد، والآخر: تعليق القنو فيه، وليس في حديث الباب إلا ما يطابق الجزء الأول، قلت: ذكر أبو محمد بن قتيبة في «غريب الحديث» تأليفه في هذا الحديث: أنَّه لما خرج رأى أقناءً معلقة في المسجد، وكان أمر بهنَّ، كل حائط بقنو يعلق في المسجد؛ ليأكل منه من لا شيء له، وقال ثابت في كتاب «الدلائل» : «وكان عليها معاذ بن جبل في عهده عليه السَّلام») انتهى.

ومن عادة المؤلف الإحالة على أصل الحديث وما أشبهه، والمناسبة ما بينهما: أنَّ كلَّ واحد منهما وضع في المسجد لا للادخار، وعدم التفاته عليه السَّلام إليه؛ استقلالًا للدنيا وما فيها، فسقط بما ذكرنا قول ابن بطال في عدم ذكر المؤلف حديثًا في تعليق القنو: أنَّه أغفله، وكذلك سقط كلام ابن التين: أُنْسيَه، انتهى.

وزعم ابن الملقن أنَّ المؤلف أخذ تعليق القنو من جواز وضع المال في المسجد بجامع أنَّ كلًّا منهما وضع؛ لأخذ المحتاجين منه، وأشار بذلك إلى حديث عوف بن مالك الأشجعي عند النسائي بإسناد قوي: أنَّه عليه السَّلام خرج وبيده عصًا، وقد علَّق رجل قنو حشف، فجعل يطعن في ذلك القنو، ويقول: «لو شاء ربُّ هذه الصدقة؛ لتصدق بأطيب من هذا»، وليس على شرطه، انتهى.

قلت: وفيه نظر؛ لأنَّه لما كان الحديث ليس على شرطه؛ لا يجوز له أخذ الحكم منه، ووضعه ترجمة ويحيل عليه؛ لأنَّه عنده ليس بقوي، فكيف يعتمد الحكم، وليس يعتمد دليله؟ على أنَّ ما في النسائي حديث مستقل ليس أصلًا لحديث الباب، وقياسه على وضع المال في المسجد قياس مع الفارق؛ لأنَّ القنو المعلق يفيد أنَّه علَّقه صاحبه؛ لأجل أن يصلِّي، ثم يرجع يأخذه، ولهذا قال عليه السَّلام لمَّا رآه: «لو شاء رب هذه الصدقة...» إلى آخره، فأفاد أنَّه لم يعلق للصدقة، بل للحفظ، فالأظهر ما قاله إمام الشَّارحين؛ لأنَّه إشارة إلى أصل الحديث؛ فليحفظ.

وفي الحديث أحكام منها: أنَّ القسمة مفوضة إلى الإمام أو نائبه على قدر اجتهاده.

ومنها: أنَّ السلطان إذا علم حاجة لأحد إلى المال؛ لا يحل له أن يدخر منه شيئًا، وسلاطين زماننا عن هذا غافلون.

ومنها: أنَّ فيه كرم النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وزهده في الدنيا حيث لم يلتفت إلى المال، ولم يبق عنده منه شيء، وأنَّه لم يمنع شيئًا سُئِلَه إذا كان عنده.

ومنها: أنَّ للسُّلطان أن يرتفع عما يدعى إليه من المهنة والعمل بيده، وله أن يمتنع من تكليف ذلك غيره إذا لم يكن للسلطان في ذلك حاجة.

ومنها: أنَّ فيه وضع ما الناس مشتركون فيه من صدقة وغيرها في المسجد؛ لأنَّ المسجد لا يحجب أحدًا من ذوي الحاجة من دخوله، والناس فيه سواء.

ومنها: أنَّ الأقناء في المسجد وما يشبهه لا بأس به.

ومنها: أنَّ الماء الذي أعدَّ للسَّقي في المسجد يشرب منه ويتوضأ؛ لأنَّه إنَّما جعل؛ لدفع العطش، ولم يردَّ به أهل المسكنة، فلا يترك شربه، وعليه تعامل الناس في الأمصار.

وقال ابن بطال: (وفي الحديث: أنَّ العطاء لأحد الأصناف الثمانية الذين ذكرهم الله في كتابه دون غيرهم؛ لأنَّه أعطى العبَّاس لمَّا شكا إليه من الغرم، ولم يسوِّه في القسمة مع الثمانية، فلو قسَّم ذلك على التساوي؛ لما أعطى العبَّاس بغير مكيال ولا ميزان).

واعترضه الكرماني فقال: (لا يصح هذا الكلام؛ لأنَّ الثمانية هي مصارف الزكوات، والزكاة حرام على العبَّاس، بل كان هذا المال إمَّا فيئًا أو غنيمةً).

ورده إمام الشَّارحين فقال: (لم يكن هذا المال فيئًا، وإنَّما كان خراجًا؛ لما رواه ابن أبي شيبة من طريق حميد مرسلًا، وفيه: «وهو أول خراج حمل إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم...»؛ الحديث، ولو وقف الكرماني على هذا؛ لما قال هذا الكلام) انتهى.

قلت: وما ذكره ابن بطال من جعله المال من الزكاة، فقد تبعه عليه صاحب «التلويح» حيث قال: (وفي الحديث: دلالة للإمام الأعظم ومن تبعه أنَّه يجوز الاقتصار على بعض الأصناف الثمانية المذكورين في الآية؛ لأنَّه أعطى العبَّاس لمَّا شكا إليه الغرم بغير وزن، ولم يسوِّه في القسمة بين الثمانية، ولم ينقل أنَّه أعطى أحدًا مثله).

واعترضه إمام الشَّارحين فقال: (وكلام ابن بطال وهم، وكلام


(١) في الأصل: (الثاء)، وليس بصحيح.
(٢) في الأصل: (للنفي)، وليس بصحيح.
(٣) في الأصل: (تغاير)، وليس بصحيح.

<<  <   >  >>