للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

فيه، والظاهر الأول، (فأتخذه مُصلَّى)؛ بضمِّ الميم، موضع صلاة، (وأتخذَُه)؛ بالرفع على الاستئناف، أو بالنصب عطفًا على الفعل المنصوب، وكلاهما في «الفرع»، كذا قرره الزركشي.

ومثله في «عمدة القاري»، قال: (لأن الفاء وقعت بعد النهي المستفاد من الودادة) انتهى.

واعترض الدماميني ذلك فقال: (إن ثبتت الرواية بالنصب؛ فالفعل منصوب بـ «أن» مضمرة، وإضمارها هنا جائز لا لازم، و «أن» والفعل بتقدير مصدر معطوف على المصدر المسبوك من: أنَّك تأتيني؛ أي: وددت إتيانك فصلاتك، فاتخاذي مكان صلاتك مصلًّى، وهذا ليس في شيء من جواب التمني الذي يريدونه، وكيف ولو ظهرت «أن» هنا؛ لم يمتنع، وهناك يمتنع، ولو رفع «تصلي» وما بعده بالعطف على الفعل المرفوع المتقدم، وهو قولك: «تأتيني»؛ لصحَّ، والمعنى بحاله) انتهى.

قلت: واعتراضه وارد على ما قرره الزركشي؛ لأنَّه جعل النصب بالعطف على الفعل المنصوب، وأمَّا على ما ذكره إمام الشَّارحين؛ فلا يرد شيء؛ لأنَّه جعل النصب بـ (أن) المضمرة؛ حيث علله بقوله: (لأن الفاء وقعت بعد النهي...) إلى آخره؛ يعني: فهو منصوب بـ (أن) مضمرة، إلى آخر ما قاله الدماميني، والرواية بالنصب ثابتة في «الفرع» كالرفع، فالمعنى عليه صحيح، ولكنَّ إمامنا الشَّارح قد اختصر عبارته وأوضحها الدماميني؛ فافهم.

(قال) أي: الراوي: (فقال له) أي: لعُتبان (رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: سأفعل)؛ بالهمز، يعني: أصلي لك في بيتك، (إن شاء الله) تعالى علقه بمشيئة الله تعالى؛ عملًا بقوله تعالى في الكهف: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا*إِلَاّ أَن يَشَاءَ اللهُ} [الكهف: ٢٣ - ٢٤]، وأراد: التبرُّك؛ لأنَّ اطلَاعَه بالوحي على الجزم بأنَّه سيقع غير مستبعد في حقِّه عليه السَّلام، كذا قاله إمام الشَّارحين، وتبعه ابن حجر وغيره.

قلت: ويدل عليه عموم قوله تعالى: {وَمَا (١) يَنطِقُ عَنِ الهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَاّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: ٣ - ٤]، فجميع أفعاله وأقواله عليه السَّلام مقرونة بالوحي، ولمَّا قال لعتبان: «سأفعل»؛ علم منه تحقق الفعل؛ لأنَّه عليه السَّلام لا يخبر بأمر يفعله ولم يفعله؛ لأنَّه لا يخبر بخلاف الواقع، وعقَّبه بالمشيئة؛ تبرُّكًا بقوله تعالى، وإشارة إلى أنَّ جميع الأفعال بيد الله تعالى؛ فافهم.

وزعم الكرماني أنَّه ليس المراد به مجرد التبرك؛ إذ محل استعماله؛ إنَّما هو فيما كان مجزومًا به، وتبعه البرماوي.

قلت: وفيه نظر؛ فإنَّ استعمال المشيئة للتبرك ههنا حيث إنَّه عليه السَّلام علم بالوحي أنَّه يفعل ذلك، ولولا علمه بذلك؛ لما وعده بالفعل؛ لأنَّه لو لم يعلم؛ لكان خلف بالوعد، وهو محال عليه قطعًا صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فافهم.

(قال عتبان)؛ هو محمول على أنَّ محمودًا أعاد اسم شيخه؛ اهتمامًا بذلك؛ لطول الحديث، كما مر، (فغدا رسول الله) وللأصيلي والكشميهني: (فغدا على رسول الله) (صلَّى الله عليه وسلَّم) زاد الإسماعيلي: (بالغد) (وأبو بكر)؛ هو عبد الله بن أبي قحافة، واسمه عثمان رضي الله عنهما، وعند الطبراني من طريق أبي أويس أنَّ السؤال وقع يوم الجمعة، والتوجه إليه وقع يوم السبت، كما سبق (حين ارتفع النهار)؛ تفسير لقوله: (فغدا)؛ يعني: أنَّه توجه إليه يوم السبت وقت الغداة، (فاستأذن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ يعني: في الدخول، وهذا يعين ما قلناه في الحديث السابق؛ فافهم.

(فأذنت له) وفي رواية الأوزاعي: (فاستأذنا؛ فأذنت لهما)؛ أي: للنبيِّ الأعظم عليه السَّلام وأبي بكر.

وفي رواية أبي أويس: (ومعه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما).

وفي رواية مسلم من طريق أنس عن عتبان: (فأتاني ومن شاء الله من أصحابه).

وفي رواية الطبراني من وجه آخر عن أنس: (فأتاني في نفر من أصحابه).

قال إمام الشَّارحين: (والتوفيق بين هذه الروايات هو أنَّ أبا بكر كان معه في ابتداء توجههم، ثمَّ عند الدخول أو قبله بقليل اجتمع عمر وغيره من الصحابة، فدخلوا معه) انتهى.

قلت (٢) : (فلم يجلس) عليه السَّلام (حين دخل البيت) وفي رواية الكشميهني: (حتى دخل)؛ أي: لم يجلس في الدار ولا غيرها حتى دخل البيت مبادرًا إلى ما جاء بسببه.

قال النووي في «شرح مسلم» : زعم بعضهم أن «حتى» غلط، وليس بغلط؛ لأنَّ معناه: لم يجلس في الدار ولا في غيرها حتى دخل البيت مبادرًا إلى قضاء حاجته التي طلبها منه، وجاء بسببها، وهي الصلاة في بيته، وفي رواية يعقوب عند الطيالسي والبخاري: (فلما دخل؛ لم يجلس حتى قال: «أين تحب؟»)، وكذلك للإسماعيلي.

قال إمام الشَّارحين: (إنما يتعيَّن كون رواية الكشميهني غلطًا؛ إذا لم يكن لعتبان دار فيها بيوت، وأمَّا إذا كانت له دار؛ فلا يتعين) انتهى.

قلت: ولا يخفى أنَّ دُور الصحابة ليس فيها بيوت، فإنَّ الدار بيت ومرتفق فقط، وليست دار أحدهم ذات بيوت، فإنَّه عليه السَّلام كانت حُجَره بيوتًا، والبيت: ما يبات فيه، وكأن النووي قاس البيت على بيت زمانه من اشتماله على عشرة أماكن أو أكثر أو أقل، وهو قياس مع الفارق، فإنَّ بين بيت الصحابة وبيت ما بعدهم فرقًا بيِّنًا، كما لا يخفى، وعليه؛ فيتعين كون رواية الكشميهني غلطًا؛ لأنَّه ليس في البيت مكان يقف فيه، بل الباب على الطريق متصل بمكان البيتوتة؛ فافهم.

(ثم قال) عليه السَّلام لعتبان: (أين تحب أن أصلي من بيتك) وللكشميهني: (في بيتك)؛ يعني: في أي مكان تريد أن أخصَّ الصلاة فيه وتجعله مصلًّى؟

فإن قلت: أصل (من)؛ للابتداء، فما معنى: (من بيتك)؟

قلت: الحروف ينوب بعضها عن بعض، فـ (من) ههنا؛ بمعنى: (في)؛ كما في قوله تعالى: {أَرُونِي مَاذَا (٣) خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ} [فاطر: ٤٠]، {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ} [الجمعة: ٩].

(قال) عتبان: (فأشرت له) عليه السَّلام (إلى ناحية من البيت)؛ ليصلي فيها، وهذا يعين ما قلناه من أنَّ دار عتبان لم تكن فيها بيوت؛ لأنَّه لو كان فيها بيوت؛ لقال: فأشرت إلى بيت منها، ولمَّا قال: إلى ناحية من البيت؛ علم منه البيت هو ما يبات فيه، وأنه ليس يوجد غيره، وهذا أكبر ردٍّ على ما زعمه


(١) في الأصل: (ولا)، والمثبت موافق للتلاوة.
(٢) بياض في الأصل.
(٣) في الأصل: (ما)، والمثبت موافق للتلاوة.

<<  <   >  >>