للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

هكذا.

والكتابة: لغة: مصدر كتب، من الكَتْب؛ وهو الجمع، ومنه: كتبت القربة إذا خرزتها، وسمي هذا العَقْد كتابة ومكاتبة؛ لأنَّ فيه ضم حرية اليد إلى حرية الرقبة، أو لأنَّ فيه جمعًا بين نجمين فصاعدًا، أو لأنَّ كلًا منهما يكتب الوثيقة، وفي الشرع: تحرير المملوك يدًا في الحال، ورقبة في المآل؛ لأنَّ المكاتب لا يتحرر رقبة إلا إذا أدى المال، وهو بدل الكتابة، وأما في الحال؛ فهو حر من جهة اليد فقط، حتى يكون أحق بكسبه، ويجب على المولى الضمان بالجناية عليه أو على ماله، ولهذا قيل: (المكاتب طار عن ذل العبودية، ولم ينزل في ساحة الحرية، فصار كالنعامة إن استطيرت؛ تباعدت، وإن استحملت؛ تطايرت)، كذا قرره إمام الشَّارحين في «عمدة القاري».

(فقالت)؛ أي: عائشة مخاطبة لبريرة: (إن شئتِ)؛ بكسر التَّاء؛ لأنَّه خطاب المؤنث؛ (أعطيتُ) بلفظ المتكلم (أهلَكِ) بكسر الكاف؛ أي: مواليك، وهو منصوب على أنَّه مفعول أول لـ (أعطيت)، ومفعوله الثاني محذوف وهو ثمنك؛ لدلالة الكلام عليه، كذا قاله إمامنا الشَّارح، (ويكون الوَلاء)؛ بفتح الواو، هو في عرف الفقهاء: تناصر يوجب الإرث والعقل؛ لأنَّ الولاء لغة: النصرة والمحبة، إلا أنَّه اختص في الشرع بولاء العتق والموالاة، واشتقاقه من (الولي) وهو القربوحصول الثاني بعد الأول من غير فصل، انتهى، (لي) أي: لا لأهلك، (وقال أهلها) أي: موالي بريرة لعائشة رضي الله عنهما: (إن شئتِ) بكسر التَّاء؛ (أعطيتِها)؛ بكسر التَّاء أيضًا؛ أي: بريرة، وهو مقول القول (ما) أي: الذي (بقي) من مال الكتابة في ذمة بريرة.

قال إمام الشَّارحين: (ومحل هذه الجملة النصب؛ لأنَّها وقعت مفعولًا ثانيًا لقوله: «أعطيتها»، ومفعوله الأول الضمير المنصوب في «أعطيتها») انتهى.

واعترضه العجلوني بأن محل (ما) الموصولة النصب، لا الجملة على الصَّحيح، انتهى.

قلت: واعتراضه مردود عليه؛ لأنَّ دأب المؤلفين التسامح في مثل هذا في عباراتهم، ومعلوم أن محل الموصول النصب؛ فافهم، وقد يقال أيضًا: إن جمهور النحاة جوزوا أن يكون محل الجملة بتمامها النصب، وقال بعضهم: وهو الأصح، وعلى هذا فالاعتراض غير وارد من أصله؛ فافهم.

قال إمام الشَّارحين: (فإن قلت: كم كان مال الكتابة على بريرة؟

قلت: ذكر في باب «الكتابة» من حديث يونس، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: «إن بريرة دخلت عليها تستعينها في كتابتها، وعليها خمس أواق نُجمت عليها في خمس سنين...»؛ الحديث.

فإن قلت: ذكر في باب «سؤال الناس» : كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية، فأعينيني، فقال: «خذيها فأعتقيها، واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق»، فبين الروايتين تعارض.

قلت: هذا الحديث أصح؛ لاتصاله ولانقطاع ذاك، ولأن راوي هذا عن أمه، وهو أعرف بحديث أمه وخالته.

وقيل: يحتمل أن تكون هذه الخمسة الأواق التي قد استحقت عليها بالنجوم من جملة التسعة، أو أنها أعطت نجومًا وفَضُلَ عليها خمسة.

قلت: هذا يرده ما رواه البخاري في «الشروط في البيع» : «ولم تكن قضت من كتابتها شيئًا».

والأواق: جمع أُوقيَّة؛ بِضَمِّ الهمزة، وتشديد التحتية، والجمع يشدد ويخفف، مثل أثفية وأثافي وأثافٍ، وربما يجيء في الحديث: «وقية» (١)، وليست بالعالية، وهمزتها زائدة، وكانت الأوقية قديمًا عبارة عن أربعين درهمًا، ثم إنها تختلف باختلاف اصطلاح البلاد)، انتهى كلام إمام الشَّارحين.

واعترضه العجلوني فزعم أن قوله: (هذا الحديث أصح؛ لاتصاله ولانقطاع ذاك) : كلٌّ منهما متصل، كما يعلم من الوقوف عليه، وعبارته غير محررة، وقوله: (بحديث أمه وخالته)؛ أين الأم والخالة؟ وقوله: (يرده ما رواه...) إلخ؛ لا ينافيه؛ لاحتمال أنها جاءت مرتين، انتهى.

قلت: واعتراضه مردود عليه، فإن البخاري ذكر في باب (المكاتب ونجومه) تعليقًا عن اللَّيث: حدثني يونس، عن ابن شهاب: قال عروة: قالت عائشة: (إن بريرة دخلت عليها تستعينها في كتابتها، وعليها خمسة أواق، نُجمت عليها في خمس سنين...)؛ الحديث، ولا ريب أنَّه منقطع، وأن عروة ابن أخت عائشة، فهي خالته، كما لا يخفى، وفي بعضها: عن أسماء؛ وهي أخت عائشة وأم هشام وعروة؛ لأنَّ المؤلف قد ذكر هذا الحديث في أربعة عشر (٢) موضعًا، وقوله: (لا ينافيه...) إلخ؛ ممنوع؛ فإن المنافاة بينهما ظاهرة كما لا يخفى؛ فافهم.

والأوقية في ديارنا الشامية: سبعة وستين درهمًا، وكذلك في حلب، إلا أنها في سنة تسع وسبعين صارت في حلب فقط ثمانين درهمًا، وفي المدينة: عشرين درهمًا، والله تعالى أعلم.

(وقال سفيان) هو ابن عيينة، أحد الرواة المذكورين في الحديث (مرة) أي: أخرى، فهو موصول غير معلق، وأشار بذلك إلى أن سفيان حدَّث به على وجهين، فمرة قال: (إن شئتِ؛ أعطيتِها ما بقي)، ومرة قال: (إن شئتِ) بكسر التَّاء (أعتقتِها)؛ أي: بدل (أعطيتِها)، والمثناة الفوقية فيهما مكسورة بلا تحتية بعدها على الأفصح، (ويكون الوَلاء) بفتح الواو (لنا) أي: عليها، (فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ أي: لحجرة عائشة رضي الله عنها؛ (ذكَّرتْهُ) بتشديد الكاف، وسكون التَّاء بعدها هاء؛ أي: النَّبيَّ الأعظم صلى الله عليه وسلم (ذلك)؛ أي: الشرط المذكور.

وقال إمام الشَّارحين: («ذكرته» يحتمل أربعة وجوه؛ الأول: «ذكَّرته» : بالتشديد، وبالضمير المنصوب، الثاني: «ذكَّرت» : بالتشديد بدون الضمير، والثالث: «ذَكَرت» : على صيغة الماضي للمؤنث الواحدة بالتخفيف بدون الضمير، والرابع: «ذَكَرته» : بالتخفيف والضمير؛ لأنَّ «ذَكَر» بالتخفيف يتعدى؛ يقال: ذَكَرت الشيء بعد النِّسيان، وذَكَرته بلساني وبقلبي، وتذكرته وأذكرته غيري وذكرته بمعنًى) انتهى.

قلت: ولم يبين الرواية ههنا، لكن الذي يظهر من كلامه وكذا من كلام صاحب «التنقيح» : أن الرواية ههنا: بتشديد الكاف، وبهاء الغيبة للمنصوب، وهو المفهوم من كلام القسطلاني؛ حيث قال: بتشديد الكاف، وسكون تائها (٣)؛ كما في (الفرع) و (أصله)، وقال الكرماني: («ذَكَرتُه»؛ بلفظ التكلم، والمتكلم به عائشة، والراوي نقل لفظها بعينه،


(١) في الأصل: (بقية)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٢) في الأصل: (أربع عشرة)، ولا يصح.
(٣) زيد في الأصل: (بلفظ المتكلم)، ولعل الصواب حذفها.

<<  <   >  >>