للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

وبالغيبة؛ كأن عائشة جردت من نفسها شخصًا، فحكت عنه، فالأول: حكاية الراوي عن لفظ عائشة، والثاني: حكاية عائشة عن نفسها) انتهى، قلت: ولم يبين وجه الرواية.

وقال القسطلاني: («ذَكَّرَتْه»؛ بتشديد الكاف، وسكون التَّاء، كما في «الفرع» و «أصله»، فيكون من كلام الراوي بمعنى ما وقع من عائشة، أو بِضَمِّها مع سكون الرَّاءبلفظ التكلم (١)، ويكون من كلام عائشة) انتهى.

وزعم ابن حجر: «ذكَّرته ذلك» : كذا وقع هنا بتشديد الكاف، فقيل: الصَّواب ما وقع في رواية مالك وغيره بلفظ: ذكرت؛ لأنَّ التذكير يستدعي سبق علم بذلك، ولا يتجه تخطئة هذه الرواية؛ لاحتمال السبق على وجه الإجمال، انتهى.

وردَّه إمام الشَّارحين، فقال: (لم يبين أحد ههنا راوي التشديد، ولا راوي التخفيف، واللَّفظ يحتمل أربعة أوجه...) إلى آخر (٢) ما قدمناه عنه قريبًا، انتهى.

واعترضه العجلوني فزعم أن راوي التشديد هنا الجميع، وراوي التخفيف مالك وغيره، وما ذكره من الوجوه، لا داعي إليها، بل لا يصح بعضها، انتهى.

قلت: وهذا كلام فاسد الاعتبار؛ لأنَّه لم يعلم الرواية في لفظ (ذكرته)، فمن أين يزعم أن راوي التشديد هنا الجميع؟ لأنَّه لم ينص أحد من الشراح على أنَّ الرواية عند الجميع بالتشديد، غير أن القسطلاني قال: بتشديد الكاف في (الفرع) و (أصله)، وهو لا يدل على أنَّه عند الجميع، وكون راوي التخفيف مالك وغيره؛ كلام من لم يمس شيئًا من المعاني؛ لأنَّه لا يخفى أن رواية مالك وغيره ليست في «الصَّحيح» هنا، بل في غير «الصَّحيح»، فلا داعي لذكرها هنا؛ فافهم، وما زعمه من أنَّه (لا داعي لذكره الوجوه)؛ ممنوع؛ لأنَّه لما كانت (٣) الرواية هنا غير معلومة صريحًا؛ احتاج إلى بيان احتمالات اللَّفظ، وهو أكبر داعٍ لذكرها؛ وكون لا يصح بعضها؛ ممنوع أيضًا، بل هي جميعًا صحيحة، ولم يبين وجه عدم صحة بعضها، ولو كان لها وجه صحيح؛ لذكره، وما هذا إلا من كثرة تعصبه، وشدته في كلامه.

وحاصله: أن الأوجه الأربعة صحيحة المعنى سواء كانت الرواية بالتشديد أو بالتخفيف، على أنَّ أمام الشَّارحين قد ذكر وجه كل وجه منها، وهو يدل على صحتها عند أهل المعاني والعرفان، لا عند أهل الغفلة والنِّسيان؛ فافهم.

وأشار ابن حجر بقوله: (فقيل: الصَّواب ما وقع في رواية مالك بالتخفيف) إلى ما قاله الزركشي من أن الصَّواب: (ذكرت له ذلك) انتهى.

واعترضه الدماميني فقال: وكأنَّه فهم أن الضمير المنصوب عائد إلى النَّبي عليه السَّلام و (ذلك) مفعول، فاحتاج إلى تقدير الحرف ضرورةَ أنَّ (ذكر) إنَّما يتعدى بنفسه، وليس الأمر كما ظنه، بل الضمير المنصوب عائد إلى الأمر المتقدم، و (ذلك) بدل منه، والمفعول الذي يتعدى إليه هذا الفعل بحرف الجر حذف مع الحرف الجار له؛ لدلالة ما تقدم عليه، فآل الأمر إلى أنَّها قالت: فلمَّا جاء رسول الله عليه السَّلام ذكرت ذلك الأمر له، وليت شعري! ما المانع من حمل هذه الرواية الصَّحيحة على الوجه السائغ، ولا غبار عليه؟! انتهى.

واعترضه العجلوني فزعم أنَّه لا يتأتَّى هذا إلا مع التخفيف، مع أن فيه كثرة حذف، وقوله: (ليت شعري...) إلخ، فيه أنَّ الرواية بالتخفيف، على هذا المنوال لم نر أحدًا أثبتها هنا في هذا الموضع، نعم؛ هي رواية مالك المعلقة، ولو جعل (ذكر) المشدد بمعنى المخفف، وأعرب اسم الإشارة بدلًا من الضمير الراجع إلى الأمر؛ لكان وجهًا، انتهى.

قلت: وهذا كلام غير صحيح؛ لأنَّ قوله: (لا يتأتَّى هذا...) إلخ؛ ممنوع، فما المانع من إجرائه في رواية التشديد؟

وقوله: (مع أن فيه كثرة حذف)؛ ممنوع أيضًا؛ لأنَّه ليس فيه كثرة حذف، ألا ترى إلى قوله: (فآل الأمر...) إلخ، فأين كثرة الحذف؟ فافهم.

وقوله: (فيه أنَّ الرواية...) إلخ؛ ممنوع، بل الرواية على هذا المنوال بالتشديد أيضًا، فكما يجوز توجيه التشديد بذلك، كذلك يجوز توجيه التخفيف.

وقوله: (لم نر أحدًا أثبتها...) إلخ؛ ممنوع، فإن إمام الشَّارحين ورئيس المحققين قد أثبتها في الأوجه الأربعة التي ذكرها في «شرحه»، مع أنَّها ثابتة في رواية مالك وغيره، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، والمُثْبِت مقدَّم على النافي.

وقوله: (ولو جعل «ذكر» ...) إلخ؛ هذا التوجيه هو عين ما ذكره الدماميني، فكيف يعترض عليه ويذكر مثله، وينسبه لنفسه، ويعتمد عليه؟! وما هو إلا تناقض وعدم معرفة بمعاني الكلام.

وحاصله: أنَّ ما زعمه العجلوني بعيد عن النَّظر، وتعصب وعناد؛ فاجتنبه، والله أعلم.

(فقال) وقوله (النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) ثابت عند أبي ذر ساقط عند غيره؛ أي: قال لعائشة: (ابتاعيها) أي: اشتري بريرة، (فأعتقيها) بهمزة القطع في الثاني، والوصل في الأول، (فإنَّ الوَلاء)؛ بفتح الواو مع المد؛ أي: الإرث، ولأبوي ذر والوقت والأصيلي وابن عساكر: (فإنما الولاء) (لمن أعتق)، وهذا مما لا خلاف فيه عند العلماء، واختلفوا فيمن أعتق على أنلا ولاء له؛ وهو المسمى بالسائبة؛ ومذهب الجمهور: أن الشرط باطل، والولاء لمن أعتق، وعند أحمد: أنَّه لم يكن له الولاء عليه، فلو أخذ من ميراثه شيئًا؛ رده في مثله، وقال مالك، ومكحول، وأبو العالية، والزهري، وعمر بن عبد العزيز: يُجعل ولاؤه لجماعة المسلمين؛ كما فعله بعض الصَّحابة، كذا في «عمدة القاري».

(ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر)؛ أي: خطيبًا يوم الجمعة، ولهذا أتى بـ (ثم) التي للتراخي حتى يكون الحكم عامًّا، وكان عليه السَّلام من عادته أنَّه إذا لم يعجبه أمر من أصحابه؛ قام على المنبر خطيبًا، وذكره مبهمًا؛ تطييبًا لخاطرهم، فمن كان فعل شيئًا منه؛ انتهى عنه ورجع.

(وقال سفيان) هو ابن عيينة أحد الرواة المذكورين في الحديث (مرة: فصعِد) بكسر العين المهملة، وقد تفتح بِقلَّة؛ أي: بدل (قام) (رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر)؛ أي: خطيبًا، وأراد أنَّه روي بوجهين مرة قال: (ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر)، ومرة قال: (فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر)؛ يعني: أنَّه روي عنه اللَّفظان في مرتين، وذكر في باب (الشراء والبيع


(١) (بلفظ المتكلم) : جاء في الأصل بعد قوله: (بتشديد الكاف وسكون التاء)، ولعل الصواب إثباتها هنا.
(٢) في الأصل: (آخره)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٣) في الأصل: (كان)، ولعله تحريف.

<<  <   >  >>