للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

مع النَّساء) : قال لي النَّبي صلى الله عليه وسلم: «اشتري وأعتقي، فإنما الولاء لمن أعتق، ثم قام من العشيِّ، فأثنى على الله بما هو أهله...»؛ الحديث (فقال) أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم في خطبته: (ما بال أقوام)؛ أي: ما حالهم وشأنهم، وفي باب (الشراء والبيع مع النَّساء) : «ما بال أناس»، وإنَّما لم يصرح عليه السَّلام بالقائل؛ لأنَّه من خلقه العظيم؛ لأنَّه لا يواجه شخصًا معينًا بمكروه، ولا يذكره بين الناس بشيء لا يوافق الشرع، بل يأتي بلفظ مبهم، فصاحب الأمر يفهم ذلك ويرتدع عنه، (يشترطون شروطًا) جمع شرط؛ أي: في عقودهم وبيعهم وشرائهم (ليس) التذكير باعتبار جنس الشرط، أو باعتبار المذكور، كذا قاله إمام الشَّارحين، وقال الكرماني: (التذكير باعتبار الاشتراط)، قال إمام الشَّارحين: وفيه نظر لا يخفى، انتهى، قلت: وهو كذلك لأنَّ الاشتراط قول غير مذكور، فلا يصح عليه المعنى؛ فافهم، وفي رواية الأصيلي: (ليست) بالتأنيث؛ أي: الشروط (في كتاب الله) عز وجل ولا في سنة رسوله، فأجاب عليه السَّلام عن ذلك بقوله: (من اشترط) أي: من الناس (شرطًا) في بيعه أو شرائه (ليس) أي: الشرط (في كتاب الله) ولا في سنة رسوله عليه السَّلام؛ (فليس) أي: ذلك الشرط (له) أي: لا يستحقه (وإن) وصلية (اشترط) في عقده (مئة مرة)، وعند المؤلف في باب (الشراء والبيع مع النَّساء) : «وإن اشترط مئة شرط، وشرط الله أحق وأوثق»، وكذا في رواية ابن ماجه، وذكر (المئة) للمبالغة في الكثرة، لا أنَّ (١) هذا العدد بعينه هو المراد، قاله إمام الشَّارحين.

وزعم ابن حجر أنَّ لفظ (المئة) للمبالغة، فلا مفهوم له، وردَّه في «عمدة القاري» فقال: (لم يدر هذا القائل أنَّ مفهوم اللَّفظ في اللُّغة هو معناه، وعلى قوله؛ يكون هذا اللَّفظ مهملًا، وليس كذلك، وإن كان قال ذلك على رأي الأصوليين؛ حيث فَرَّقوا بين مفهوم اللَّفظ ومنطوقه، فهذا الموضع ليس محله) انتهى.

وقال الشيخ تقي الدين: يحتمل أن يريد بـ «كتاب الله» : حكم الله، ويراد بذلك: نفي كونها في كتاب الله بواسطة أو بغير واسطة، فإنَّ الشريعة كلها في كتاب الله إما بغير واسطة كالمنصوصات في القرآن من الأحكام، وإما بواسطة قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: ٧]، و {أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النور: ٥٤] انتهى.

وقال الخطابي: (ليس المراد: أنَّ ما لم ينص عليه في كتاب الله باطل، فإن لفظ «الولاء لمن أعتق» -أي: مثلًا- من قوله عليه السَّلام، لكنَّ الأمر بطاعته في كتاب الله، فجاز إضافته إلى الكتاب)، واعتُرض بأن ذلك لو جاز؛ لجازت إضافة ما اقتضاه كلامه عليه السَّلام إليه، ورُدَّ بأنَّ الإضافة إنَّما هي بطريق العموم، وهذا بناء على أنَّ المراد بكتاب الله تعالى: القرآن، نظير قول ابن مسعود لأم يعقوب في الواشمة: (مالي لا ألعن من لعن رسولُ الله عليه السَّلام، وهو في كتاب الله بقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}).

وأجاب إمام الشَّارحين: بأنه يحتمل أن يكون المراد بكتاب الله: حكم اللهسواء ذكر في القرآن أو السنة، أو المراد من الكتاب: المكتوب، يعني: المكتوب في اللوح المحفوظ، انتهى.

قلت: وهذا الجواب هو الصَّواب، ولهذا اقتصر عليه القسطلاني وغيره من الشراح؛ فافهم.

قال إمامنا الشَّارح: (ومطابقة الحديث للتَّرجمة تُعلم من قوله عليه السَّلام: «ما بال أقوام يشترطون...» إلى آخره؛ لأنَّه عليه السَّلام ذكر هذا عقيب قضية مشتملة على بيع وشراء، وعتق وولاء؛ لأنَّه عليه السَّلام لمَّا قال: «ابتاعيها فأعتقيها، فإنَّ الولاء لمن أعتق» قبل صعوده المنبر؛ دلَّ على حكم هذه الأشياء، ثم لمَّا قال على المنبر: «ما بال أقوام...» إلى آخره؛ أشار به إلى القضية التي وقعت، فكأنَّ إشارته به إليها كوقوعها على المنبر في المسجد، وهذا هو الوجه، لا ما ذكره أكثر الشراح بما تنفر عنه الطباع وتمج عنه الأسماع، وسيعلم ذلك من يقف عليه) انتهى، قلت: وأشار بهذا إلى ما زعمه ابن حجر العسقلاني، فإنَّه قد قام وقعد، وخلط وخبط، وقال ولا يدري ما يقول، من فهمه السقيم وذهنه الفاتر العميم؛ فافهم ذلك.

وفي الحديث أحكام ذكرها إمامنا الشَّارح:

الأول: فيه دليل على جواز الكتابة، فإنْ كاتب رجلٌ عبده أو أمته على ما شرط عليه، وقَبِلَ العبد ذلك؛ صار مكاتبًا، ويدل عليه أيضًا قوله تعالى: {فَكَاتِبُوَهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: ٣٣]، ودلالة هذا على مشروعية العقد لا تخفى على عارفٍ بلسان العرب سواء كان الأمر للوجوب أو لغيره، وهذا ليس أمر إيجاب بإجماع بين الفقهاء، سوى ما ذهب إليه داود الظَّاهري ومن تبعه، وروي نحوه عن عمرو بن دينار، وعطاء، وأحمد في رواية، والشَّافعي في رواية.

فإن قلت: ظاهر الأمر للوجوب، كما ذهب إليه هؤلاء.

قلت: هذا في الأمر المطلق المجرد عن القرائن، وأما ههنا؛ فالأمر مقيد بقوله: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا}، وهو قرينة صارفة عن الوجوب، فيكون الأمر للندب.

وذهب بعض أصحابنا إلى أنَّه أمر إباحة، وفيه نظر؛ لأنَّ الحمل على الإباحة إلغاء الشرط؛ لأنَّه مباح بدونه بالاتفاق، وكلامه تعالى منزَّه عن ذلك.

والمراد بالخير المذكور: ألا يضر المسلمين بعد العتق، فإن يضرهم؛ فالأفضل ألَّا يكاتبه وإن كان يصح، وعن ابن عبَّاس وابن عمر وعطاء: الخير: الكسب خاصة، وعن الثَّوري والحسن: أنه الأمانة والدِّين خاصة، وقيل: هو الوفاء والصلاح، وإذا فقد الأمانة والكسب؛ لا يكره عندنا، وبه قال مالك والشَّافعي، وقال أحمد وإسحاق وابن القطان من الشَّافعية: يكره.

ولا يعتق المكاتب إلا بأداء الكلِّ عند الجمهور؛ لما رواه أبو داود وغيره من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «المكاتب عبد ما بقي من كتابته درهم»، وروى الشَّافعي في «مسنده» : أخبرنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: أن زيد بن ثابت قالفي المكاتب: (هو عبد ما بقي عليه درهم)، واختاره لمذهبه، وهو مذهب أئمتنا الأعلام، وفيه اختلاف الصَّحابة، ومذهب ابن عبَّاس: أنَّه يعتق كما أخذ الصحيفة من مولاه؛ يعني: يعتق بنفس العقد، وهو غريم المولى بما عليه من بدل الكتابة، ومذهب ابن مسعود: أنَّه يعتق إذا أدى قيمة نفسه، ومذهب زيد: ما ذكرناه وإنما اختاره الأربعة؛ لأنَّه مؤيد بالحديث المذكور، انتهى.

قلت: بقي على الشَّافعي أنَّ ما رواه لا ينهض دليلًا لمذهبه؛ لأنَّ في سنده ابن أبي نجيح؛ وهو ضعيف، ولأنَّه موقوف؛ وهو لا يحتج به؛ فافهم.

الثاني من الأحكام: جواز تزويج الأمة المزوجة؛ لأنَّ بريرة كانت مزوجة، وقد ذكرنا اسمه والاختلاف فيه.

فإن قلت: كان زوجها حرًّا أو عبدًا؟ قلت: في رواية البخاري عن ابن عبَّاس قال: (رأيته عبدًا-يعني: زوج بريرة- كأنَّي أنظر إليه يتبعها في سكك المدينة يبكي عليها، ودموعه تسيل على لحيته، فقال النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم لعمه العبَّاس: «ألا تعجب من حب (٢) مغيث بريرة، ومن بغض بريرة مغيثًا؟!» فقال عليه السَّلام: «لو راجعْتِه»، قالت: يا رسول الله؛ تأمرني، قال: «إنما أنا شافع»، قالت: فلا حاجة لي فيه).

فإن قلت: ذكر في (الفرائض) : (قال الحَكَم: كان زوجها حرًّا)، قلت: وقول الحكم مرسل، وذكر في (ميراث السائبة) : قال الأسود: (وكان زوجها حرًّا)، قال: وقول الأسود منقطع، وقول ابن عبَّاس أصح، وفي «مسلم» أيضًا عن عبد الرحمن: (وكان زوجها عبدًا).

الثالث من الأحكام: فيه دليل على تنجم الكتابة؛ لقولها: (كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية).

وقال الشيخ تقي الدين: وليس فيه تعرض للكتابة (٣) الحالَّة فنتكلم عليه،


(١) في الأصل: (الكثرة، لأن)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٢) في الأصل: (محب)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٣) في الأصل: (لكتابة)، ولعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>