للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

قلت: يجوز عند أصحابنا الأعلام أن يشترط المال حالًّا ومنجَّمًا؛ لظاهر قوله تعالى: {فَكَاتِبُوَهُمْ} من غير شرط التنجيم والتأجيل، فلا يزاد على النصِّ بالرأي، وبه قال مالك، وفي «الجواهر» قال أبو بكر: ظاهر قول مالك: أنَّ التنجيم والتأجيل شرط فيه، ثم قال: وعلماؤنا النظار يقولون: إنَّ الكتابة الحالَّة جائزة، ويسمونها قطاعة، وهو القياس، وقال الشَّافعي: لا تجوز الكتابة حالًّا، ولابد من نجمين، وبه قال أحمد في رواية، وأخرى عنه؛ كما ذهب إليه أئمتنا الأعلام، وهو الصَّواب.

الرابع من الأحكام: اشتراط الولاء للبائع، هل يفسد العقد؟ فيه خلاف، وظاهر الحديث يدل على أنَّه لا يفسده؛ لما قال في الحديث المذكور: «واشترطي لهم الولاء»، ولا يأذن النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم في عقد باطل، وقال الشيخ تقي الدين: إذا قلنا: إنَّه صحيح: فهل يصح الشرط؟ فيه خلاف عند الشَّافعي، والقول ببطلانه موافق للحديث، وهو مذهب الإمام الأعظم رئيس المجتهدين.

فإن قلت: كيف يأذن النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم في البيع على شرط فاسد؟ وكيف يأذن في البيع حتى يقع على هذا الشرط ويُقدم البائع عليه، ثم يبطل اشتراطه؟

قلت: أجيب عنه بأجوبة:

الأول: ما قاله الإمام الحافظ أبو جعفر الطَّحاوي: وهو أنَّه لم يوجد اشتراط الولاء في حديث عائشة إلا من رواية مالك عن هشام، فأما من سواه، وهو اللَّيث بن سعد وعمرو بن الحارث؛ فإنَّهما رويا عن هشام أن (١) السؤال لولاء بريرة إنَّما كان من عائشة لأهلها بأداء مكاتبتها إليهم، فقال صلى الله عليه وسلم: «لا يمنعك ذلك عنها، ابتاعي وأعتقي، فإنما الولاء لمن أعتق»، وهذا خلاف ما رواه مالك عن هشام: «خذيها واشرطي، فإنَّما الولاء لمن أعتق»، مع أنَّه يحتمل أن يكون معنى (اشرطي) : أظهري؛ لأنَّ الاشتراط في كلام العرب: الإظهار، ومنه قول أوس بن حجر:

فأشرط فيها نفسه وهو مُعصم... . . . . . . . . . . . . .

أي: أظهر نفسه، أي: أظهري الولاء الذي يوجبه إعتاقك أنَّه لمن يكون العتاق منه دون من سواه.

الثاني: أن معنى (اشترطي لهم)؛ أي: عليهم، كقوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: ٧]، قيل: فيه نظر؛ لأنَّ سياق الحديث وكثيرًا من ألفاظه ينفيه، ورُدَّ بأنَّ القرينة الحالية تدل على هذا مع أن مجيء اللَّام بمعنى (على) كثير في القرآن، والحديث، والأشعار، كما لا يخفى.

الثالث: أنَّه على الوعيد الذي ظاهره الأمر وباطنه النَّهي، كما في قوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: ٤٠]، وقوله: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم} [الإسراء: ٦٤]، ألا ترى أنَّه عليه السَّلام صعد المنبر وخطب، وقال: (ما بال أقوام...) إلى آخره.

الرابع: أنَّه عليه السَّلام قد كان أخبرهم بأنَّ الولاء لمن أعتق، ثم أقدموا على اشتراط ما يخالف هذا الحكم الذي علموه، فوَرَد هذا اللَّفظ على سبيل الزجر، والتوبيخ، والتنكير؛ لمخالفتهم الحكم الشرعي.

الخامس: أنَّ إبطال هذا الشرط عقوبة ونكال؛ لمعاندتهم في الأمر الشرعي فصار هذا من باب العقوبة بالمال؛ كحرمان القاتل من الميراث، وكان عليه السَّلام بيَّن لهم حكم الولاء، وأن هذا الشرط لا يحل، فلما لحُّوا وعاندوا؛ أبطل شرطهم.

السَّادس: أنَّ هذا خاص بهذه القضية، لا عام في سائر الصور، ويكون سبب التخصيص بإبطال هذا الشرط: المبالغة في زجرهم عن هذا الاشتراط المخالف للشرع، كما أن فسخ الحج إلى العمرة كان خاصًّا بتلك الواقعة؛ مبالغة في إزالة ما كانوا عليه من منع العمرة في أشهر الحج.

وقال القاضي عياض: (المشكل في هذا الحديث: ما وقع في طريق هشام ههنا، وهو قوله عليه السَّلام: «اشتريها وأعتقيها، واشترطي لهم الولاء»، فكيف أمرها عليه السَّلام بهذا وفيه عقد بيع على شرط؛ وهو لا يجوز وتغرير (٢) بالبائعين إذا شرط لهم ما لا يصح؟ ولما صعب الانفصال عن هذا على بعض الناس؛ أنكر هذا الحديث أصلًا، وحكي ذلك عن يحيى بن أكتم، وقد وقع في كثير من الروايات سقوط هذه اللَّفظة، وهذا الذي شجع يحيى على إنكارها) انتهى.

الخامس من الأحكام: ما زعمه الخطابي أنَّ فيه دليلًا على جواز بيع المكاتب رضي به أو لم يرض، عجز عن أداء نجومه أو لم يعجز، أدى بعض النجوم أم لا، وقال الشيخ تقي الدين: اختلفوا في بيع المكاتب على ثلاثة مذاهب: المنع، والجواز، والفرق بين أن يُشتَرى للعتق؛ فيجوز، أو للاستخدام؛ فلا يجوز، أما من أجاز بيعه؛ فاستدل بهذا الحديث، فإنَّه ثبت أنَّ بريرة كانت مكاتبة، وهو قول عطاء، والنخعي، وأحمد، ومالك في رواية، وقال أبو حنيفة والشَّافعي ومالك في رواية: لا يجوز بيعه، وهو قول ابن مسعود وربيعة، واعترضه إمام الشَّارحين فقال: مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة وأصحابه: أنَّه لا يجوز بيع المكاتب ما دام مكاتبًا حتى يعجز، ولا يجوز بيع كتابته (٣) بحال، وهو قول الشَّافعي بمصر، وكان بالعراق يقول: يجوز بيعه، وقال النَّووي: (قال بعض العلماء يجوز بيعه للعتق لا للاستخدام) انتهى.

السَّادس من الأحكام: ما زعمه الخطابي: فيه جواز بيع الرقبة بشرط العتق؛ لأنَّ القوم قد تنازعوا الولاء، ولا يكون الولاء إلا بعد العتق، فدل على أنَّ العتق كان مشروطًا في البيع.

واعترضه إمامنا الشَّارح فقال: إذا اشترط البائع على المبتاع إيقاع معنًى من معاني البر، فإن اشترط عليه من ذلك ما يتعجل، كالعتق المعجل؛ فذلك جائز عند الشَّافعي، وغير جائز عند الإمام الأعظم أبي حنيفة رضي الله عنه.

فإن امتنع البائع من إنفاذ العتق؛ فقال أشهب: يجبر على العتق، وقال ابن كنانة: لو رضي البائع بذلك لم يكن له ذلك ويعتق عليه، وقال ابن القاسم: إن كان اشتراه على إيجاب العتق؛ فهو حر، وإن اشتراه من غير إيجاب عتق؛ لم يجبر على عتقه، والإيجاب: أن يقول: [إن] اشتريته منك؛ فهو حر، وإن لم يقل ذلك وإنما اشترط أن يستأنف عتقه (٤) بعد كمال ملكه؛ فليس بإيجاب، وقال الشَّافعي: (البيع فاسد، ويمضي العتق اتباعًا للسنة)، وروي عنه: (البيع جائز والشرط باطل)، وروى المزني عنه: (لا يجوز تصرف المشتري بحال في البيع الفاسد)، وهو قول الإمام الأعظم وأصحابه رضي الله عنهم، واستحسن الإمام الأعظم والإمام محمَّد بن الحسن أن يجيز له العتق، ويجعل عليه الثمن، وإن مات قبل أن يعتقه؛ كانت عليه القيمة، وقال الإمام أبو يوسف: (العتق جائز وعليه القيمة).

والحجة القوية للإمام الأعظم في هذا الباب وأمثاله: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم: (نهى عن بيع وسلف، وعن شرطين في بيعة)، وعنه أيضًا: «لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع»، أخرجه الأربعة والطَّحاوي بأسانيد صحاح، وفسروا قوله عليه السَّلام: (وعن شرطين في بيع)؛ بأن البيع في نفسه شرط، فإذا شرط فيه شرط آخر؛ فقد


(١) في الأصل: (عن)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٢) في الأصل: (وتقدير)، وهو تحريف.
(٣) في الأصل: (كتابية)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٤) في الأصل: (عنه)، ولعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>