للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

أو باعتبار الصوتين نظرًا إلى أنَّه المراد، ويدل عليه أنَّه عند أبي ذر والأصيلي في روايتهما: (حتى سمعها)؛ أي: الأصوات (رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وقوله: (وهو) أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم (في بيته) جملة اسمية في محل نصب على الحال من رسول الله عليه السَّلام، (فخرج) أي: النَّبي الأعظم عليه السَّلام من بيته (إليهما)؛ أي: إلى الرجلين؛ ليفصل بينهما، والفاء للتعقيب، وفي رواية الأعرج: (فمر بهما النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم).

قال إمام الشَّارحين: (فإن قلت: كيف التوفيق بين الروايتين؛ لأنَّ الخروج غير المرور؟ قلت: وفَّق قوم بينهما بأنَّه يحتمل أن يكون مرَّ بهما أولًا، ثم إنَّ كعبًا لما أشخص خصمه للمحاكمة فتخاصما، وارتفعت أصواتهما، فسمعها عليه السَّلام، وهو في بيته فخرج إليهما).

واعترضه ابن حجر فزعم أن فيه بعدًا؛ لأنَّ في الطريقين أنَّه عليه السَّلام أشار إلى كعب بالوضيعة، وأمر غريمه بالقضاء، فلو كان أمره بذلك تقدم؛ لما احتاج إلى الإعادة، والأولى فيما يظهر لي أن يحمل المرور على أمر معنوي لا حسي.

وردَّه إمام الشَّارحين، فقال: وقوله: «وفيه بعد» الذي استبعد هذا فقد أبعد؛ لأنَّ إعادة ذلك قد تكون للتأكيد؛ لأنَّ الوضيعة أمر مندوب، والتأكيد بها مطلوب.

وقوله: «والأولى...» إلخ؛ إن أراد بالأمر المعنوي: الخروج؛ ففيه إخراج اللَّفظ عن معناه الأصلي بلا ضرورة، والأولى أن يكون اللَّفظ على معناه الحقيقي، ويكون المعنى أنَّه عليه السَّلام لما سمع أصواتهما؛ خرج من البيت لأجلهما، ومر بهما، والأحاديث يُفسر بعضها بعضًا، ولا سيما في حديث واحد روي بوجوه مختلفة، وفي رواية الطَّبراني من حديث زمعة بن صالح، عن الزهري، عن ابن كعب بن مالك، عن أبيه: (أنه عليه السَّلام مر به، وهو ملازم رجلًا (١) في أوقيتين، فقال له عليه السَّلام: «هكذا»؛ أي: ضع الشطر، فقال الرجل: نعم يا رسول الله، فقال: «أدِّ إليه ما بقي من حقه») انتهى.

قلت: وهذا هو الصَّواب، وما زعمه ابن حجر باطل ممنوع.

وقوله: (فيه بُعد)؛ ممنوع؛ لأنَّه لا يلزم من ذكر الإشارة إلى كعب بالوضعية في الطريقين ألا يكون عليه السَّلام مر بهما، مع أنَّه قد ثبت في رواية الطَّبراني: (أنه عليه السَّلام مر بهما) كما ساقها إمام الشَّارحين، والعناد بعد ذلك مكابرة، وإعادته عليه السَّلام الأمر له بالوضيعة ظنًّا منه عليه السَّلام باحتمال عدم الوضع؛ لأنَّ الأمر فيه للندب، فأعاده؛ للتأكيد ولخوف الغفلة والنِّسيان.

وقوله: (والأولى...) إلخ؛ ممنوع؛ لأنَّه لم يبين ما معنى هذا الأمر المعنوي؟ وكيف يحمل عليه واللَّفظ في الأحاديث صريح في المعنى الحقيقي؟! فالحمل عليه متعين؛ لأنَّه لا يعدل عن المعنى الحقيقي إلا لضرورة، وههنا يتعين الحمل على الحقيقي، والحمل على المعنوي هنا مخالف لصريح لفظ الأحاديث، فلا يعول عليه مع أن معناه غير ظاهر؛ فافهم.

وزاد في الطنبور نغمة العجلوني فزعم معترضًا على إمام الشَّارحين فقال: (أقول: لا شك في استبعاده، واحتمال التأكيد خلاف الأصل، ومراده «والأولى...» إلى آخره؛ أي: من هذا الوجه المستبعد، وإن كان الأولى منهما بقاء اللَّفظ على حقيقته) انتهى.

قلت: وهذا كلام فاسد الاعتبار، بل الصَّواب أنَّه غير بعيد عن الأفهام، والمعنى الصَّحيح الموافق للأحاديث هو ما ذكره إمام الشَّارحين؛ لأنَّه لم يُخلَّ بمعنًى من المعاني ويلزم على ما ذكره الزاعم فوت بعض معاني الأحاديث بدون فائدة، وكلامه عليه السلام مصان ومنزه عن عدم الفائدة.

وقوله: (واحتمال التأكيد...) إلخ؛ ممنوع؛ لأنَّ التأكيد ههنا لازم؛ حيث إنَّ الأمر المذكور للندب لا للفرضية، فلو كان الأمر فرضًا؛ لا يلزم التأكيد، لكن لما كان الأمر فيه للندب؛ كان التأكيد فيه لازمًا، لاسيما أنَّه عليه السَّلام قد ظنَّ أنَّه نسي أو غفل بسبب المخاصمة، فأعاده؛ لأجل التأكيد والتذكير وغير ذلك مما يفيد إتيانه بالوضيعة.

وقوله: (ومراده...) إلخ؛ هذا تَنزُّلٌ منه، والمحققون قالوا: لا يجوز العدول عن المعنى الحقيقي إلا لضرورة، ولا ضرورة ههنا، فالحمل على المعنى الحقيقي ههنا متعين؛ لأنَّه الأصل في الكلام، والمعنى عليه في الروايات، وعلى ما زعمه الزاعم؛ يلزم منه الخلل في المعاني والألفاظ، وخلو الأحاديث عن المعنى، وهو غير جائز؛ فاجتنب ذلك ولا تكن من الغافلين، والله أعلم؛ فافهم.

(حتى كَشَفَ)؛ بفتحات؛ أي: رفع (سِجْف)؛ بكسر السين المهملة وفتحها، بعدها جيم ساكنة وفاء، قاله إمام الشَّارحين، قلت: وظاهره أن الكسر والفتح سواء، وزعم ابن حجر أنَّه بكسر السين، وقد تفتح فجعل الفتح أقل من الكسر، وهو مخالف لما في «القاموس»؛ لأنَّه قال: السَّجفويكسر، وككِتَاب، وهو صريح في أن الكسر مساوي للفتح أو أقل من الفتح، وهو يَرد ما زعمه ابن حجر، ويدل لما قاله إمامنا الشَّارح؛ فافهم، ولا تكن من الغافلين، أي: ستر (حُجرته)؛ بِضَمِّ الحاء المهملة: حظيرة الإبل، ومنه: حجرة الدار، تقول: احتجر حجرة؛ أي: اتخذها، والجمع: حُجَر -كغُرْفَة وغُرَف- وحُجُرات؛ بِضَمِّ الجيم، وهو غاية لقوله: (فارتفعت أصواتهما)، ووجه جعله غاية أنَّه عليه السَّلام لما سمع صوتهما؛ إما أنَّه رفع صوته حتى أسمعهما أنَّه سيخرج إليهما؛ لأجل الفصل بينهما، وأنه علم بحالهما، وإما أنَّه قام من مجلسه ومشى حتى انتهى إلى باب حجرته حتى كشف سجفها، فقوله: (فخرج إليهما) يحتمل المعنيين المذكورين، فهذا وجه جعله غاية لقوله: (فخرج إليهما).

وقد خفي هذا على العجلوني فزعم: (وانظر وجه جعله غاية لقوله: «فخرج إليهما» ولو قال: حين كشف؛ لكان أظهر، فكأنَّه أوَّل «فخرج إليهما» بـ «أراد»؛ فتأمل) انتهى.

قلت: أما قوله: (وانظر...) إلى آخره؛ قد علمت وجهه مما ذكرناه، وقوله: (ولو قال...) إلى آخره؛ ممنوع، ولا حاجة إليه مع ظهور وجهه؛ لأنَّه إذا أمكن العمل بالحقيقة؛ لا يصار إلى المجاز عند المحققين، وعدم التأويل أولى من التأويل، ولا ريب أن كلام الراوي أظهر وأولى؛ لأنَّه متضمن لمعانٍ قد خفيت على كثير؛ فافهم.

وقال إمام الشَّارحين: (قال ابن سيده: السجف: الستر، وقيل: هو الستران المقرونان بينهما فرجة، وكل باب ستر بسترين مقرونين؛ فكل شق منه سجف، والجمع: أسجاف وسجوف، وربما قالوا: السجاف والسجف والتسجيف: إرخاء السجف، زاد في «المخصص» و «الجامع» : وبيت مسجف، وفي «الصِّحاح» : أسجفت الستر؛ أي: أرسلته، وقال:


(١) في الأصل: (رجل)، وليس بصحيح.

<<  <   >  >>