للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

القاضي عياض: لا يسمى سجفًا إلا أن يكون مشقوق الوسط كالمصراعين، قلت: الذي قاله ابن سيده يرده) انتهى كلام إمامنا الشَّارح.

قلت: ووجه الرد أنَّه قال: السَّجف: الستر، وهو الأشمل بما قاله القاضي، وكذلك قول «الصِّحاح» : أسجفت الستر: أرسلته، فإنَّه أيضًا أشمل، وكذلك قول «القاموس» : السجف: الستر.

وزاد في الطنبور نغمة العجلوني معترضًا على الشَّارح بأن قول ابن سيده: (وقيل: هو الستران...) إلخ، وكذا وقع في قول «القاموس»؛ هو عين ما قاله القاضي عياض، والشيء إذا كان فيه خلاف؛ لا يرد أحد القولين بالآخر إلا إذا كان منه، انتهى.

قلت: وهذا كلام فاسد الاعتبار؛ لأنَّ قول ابن سيده: (وقيل) قول ضعيف عند اللغويين؛ لأنَّه صيغة تمريض يأتي بها المؤلفون؛ للإشارة لضعف قول قائله وشذوذه، فهو غير مُعْتد به؛ لأنَّ الذي عليه أئمة اللُّغة هو الأول، وهو ظاهر في الرَّد على القاضي عياض، وكذلك عبارة «القاموس»؛ لأنَّه قال: (السجف: الستر، سجوف وأسجاف)، ثمَّ قال: (والسجف: الستران)، وهو عين كلام ابن سيده، وعلى كلِّ حال فإنَّ القول الثاني شاذ أو ضعيف، والصَّحيح الأول، وهو ظاهر في الرد عليه، فكأنَّه لا خلاف؛ لضعف القول الثاني، فحينئذ صح القول بالرد؛ فافهم.

(فنادى) أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم: (يا كعبُ) بالبناء على الضم (قال)؛ أي: كعب: (لبيك يا رسول الله) تثنية اللب؛ وهو الإقامة، وهو مفعول مطلق يجب حذف عامله، وهو من باب الثنائي (١) الذي للتأكيد والتكرار، ومعناه: لبًّا بعد لب؛ أي: أنا مقيم على إجابتك وطاعتك إقامة بعد إقامة، أفاده إمام الشَّارحين، (فقال) أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم: (ضعْ) على وزن (فع) أمر من وضع يضع، والمراد به: الحط من الدين؛ أي: حط عن غريمك (من دينك)، والأمر فيه للندب، قاله الشَّارحون، قلت: الأصل في الأمر الوجوب إلا أن يصرفه صارف عنه، وههنا جاء الدليل على الندب كما يفهم من كلامهم، (هذا) مفعول قوله: (ضع)، وهو إشارة إلى الشطر الآتي (وأومأ) بهمز أوله وآخره؛ أي: أشار عليه السَّلام (إليه) أي: إلى كعب، وقوله: (أي الشطرَ)؛ أي: النصف، تفسير من الراوي لقوله: (هذا)، وجاء تفسير (الشطر) بالنصف في رواية الأعرج، كما سيأتي عند المؤلف، و (الشطر) : منصوب تفسير لقوله: (هذا) المنصوب، وضمير (إليه) راجع إلى كعب كما ذكرناه، (قال) أي: كعب: والله (لقد فعلت يا رسول الله)؛ أي: ما أمرت به، وأخرجت منه الشطر، إنَّما أتى به ماضيًا مؤكدًا باللَّام والقسم المدلول عليه بها وبـ (قد)؛ مبالغة في امتثال ما أمره به، ولأبي ذر وابن عساكر والمستملي: (قد فعلت) بإسقاط اللَّام و (يا رسول الله)، (قال) أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم لابن أبي حدرد: (قم) خطاب لابن أبي حدرد؛ (فاقضه)؛ أي: حقه، وهو الشطر على الفور والأمر على جهة الوجوب، لأنَّ رَبَّ الدين لما أطاع بوضع ما أُمر به؛ تعيَّن على المديان أن يقوم بما بقي عليه؛ لئلا يجتمع على رَبِّ الدين وضيعة ومطل، قاله إمام الشَّارحين.

وفيه إشارة إلى أنَّه لا يجتمع الوضيعة والتأجيل؛ لأنَّ صاحب الدين يتضرر -كما ذكرناه- إلا أن يرضى رَبَّ الدين بالتأجيل، فيكون جائزًا؛ لأنَّه قد رضي بماله مؤجلًا، فلا عذر له.

قال إمام الشَّارحين: وجه مطابقة الحديث للتَّرجمة في التَّقاضي ظاهرة، وأما في الملازمة؛ فبوجهين؛ أحدهما: أن كعبًا لما طالب ابن أبي حدرد بديْنه في مسجده عليه السَّلام؛ لازمه إلى أن خرج النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم وفصل بينهما، والآخر: أنَّه أخرج هذا الحديث في عدة مواضع كما سنذكرها، فذكر في باب (الصلح) وفي باب (الملازمة) عن عبد الله بن كعب عن أبيه: (أنه كان له على عبد الله بن أبي حدرد مال فلزمه...)؛ الحديث، فكأنه أشار بلفظ الملازمة هنا إلى الحديث المذكور، على أنَّ ما ذكره في عدة مواضع كلها حديث واحد، وله عادة في بعض المواضع يذكر التَّرجمة بهذه الطريقة، انتهى.

ثم قال: (وفي الحديث دلالة على إباحة رفع الصوت في المسجد ما لم يتفاحش؛ لعدم الإنكار منه عليه السَّلام، وقد أفرد له البخاري بابًا يأتي عن قريب.

فإن قلت: قد وَرَد في حديث واثلة عند ابن ماجه يرفعه: «جنبوا مساجدكم صبيانكم وخصوماتكم»، وحديث مكحول عند أبي نعيم الأصبهاني عن معاذ مثله، وحديث جبير بن مطعم، ولفظه: «ولا يرفع فيه الأصوات»، وكذا حديث ابن عمر عند (٢) أحمد.

قلت: أجيب بأن هذه الأحاديث ضعيفة، فبقي الأمر على الإباحة من غير معارض، ولكن هذا الجواب لا يعجبني؛ لأنَّ الأحاديث الضعيفة تتعاضد وتتقوى إذا اختلفت طرقها ومخرجها، والأولى أن يقال: أحاديث المنع محمولة على ما إذا كان الصوت متفاحشًا، وحديث الإباحة محمول على ما إذا كان غير متفاحش، وقال مالك: «لا بأس أن يقضي الرجل في المسجد دينًا، وأمَّا التجارة والصرف؛ فلا أحبه») انتهى كلام إمامنا الشَّارح.

وزعم ابن بطال: وفيه إنكار رفع الصوت في المسجد بغير القراءة إلا أنَّه عليه السَّلام لم يُعنفهما على ذلك؛ إذ كان لا بد لهما منه، انتهى.

قلت: وفيه بُعد؛ لأنَّه ليس في الحديث الإنكار في رفع الصوت في المسجد، وإنما كان خروجه عليه السَّلام إليهما؛ لأجل الفصل بينهما، ولاحتمال وقوع مشاتمة بينهما توجب التعزير (٣) فبادر عليه السَّلام للفصل بينهما، ولهذا قال المهلب: لو كان رفع الصوت في المسجد لا يجوز؛ لما تركهما النَّبي عليه السَّلام، ولبيَّن لهما ذلك، انتهى.

واعترضه ابن حجر فزعم بأنَّ لِمَن منع ذلك أن يقول: لعله تقدم نهيه عن ذلك، فاكتفى به واقتصر على الصلح المقتضي لترك المخاصمة الموجبة لرفع الصوت، انتهى.

قلت: واعتراضه مردود عليه؛ لأنَّه لو كان تقدم نهيه عن ذلك؛ لما كان يحصل بينهما مخاصمة ورفع صوت، ولكان عليه السَّلام يعيد النَّهي لهما على سبيل التأكيد والتذكير، واقتصاره على الصلح إنَّما كان لأجل تطييب خاطرهما، وحتى لا يحصل بينهما مشاتمة ومنافرة توجب التعزير، فاقتصاره على الصلح كان لأجل هذا لا لأجل ترك المخاصمة، فإن المخاصمة؛ لإظهار الحقوق غير مذمومة سواء كانت في المسجد أو غيره؛ فافهم.

وقال إمامنا الشَّارح: (وفي الحديث جواز الاعتماد على الإشارة؛ لقوله «هكذا»، وأنها بمنزلة الكلام إذا فهمت؛ لدلالتها عليه، فيصح على هذا يمين الأخرس، وشهادته، وأمانه، وعقوده؛ إذا فهم عنه ذلك.


(١) في الأصل: (الثنا)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٢) زيد في الأصل: (أبي)، وليس بصحيح.
(٣) في الأصل: (التعذير)، وهو تحريف، وكذا في الموضع اللاحق.

<<  <   >  >>