للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

(أربِطه) بكسر الموحَّدة الخفيفة وضمها (إلى سارية) أي: مع سارية (من سوار المسجد)؛ أي: النَّبوي، فاللَّام للعهد، والسارية: الأسطوانة؛ أي: من أسطوانة من أساطين المسجد النَّبوي، قال القليوبي: وجملتها الآن مئتان وست وتسعون أسطوانة، انتهى، وقد زاد في عمارته السلطان عبد المجيد العثماني زيادة لم أرها، ونسأل الحنان المنان أن يرزقنا زيارة النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم بالصحة والأمان، آمين، (حتى تصبحوا)؛ أي: تدخلوا في الصباح، فهي تامة لا تحتاج إلى خبر (وتنظروا إليه) أي: إلى العفريت (كلُّكم) بالرفع تأكيد للضمير المرفوع.

قال إمام الشَّارحين: يحتمل أن يكون ربطه بعد تمام الصلاة، أو يربطه بوجه كان شغلًا يسيرًا، فلا تفسد به الصلاة، انتهى.

قال العجلوني: (والأرجح كون ربطه خارج الصلاة؛ لأنَّ ربطه بالسارية يحتاج إلى عمل كثير لا يسير كما قاله، على أنَّ في رواية النسائي السَّابقة أنَّها تدل على كثرة العمل؛ فتأمل) انتهى.

قلت: بل هما احتمالان، والأرجح أنَّه عليه السَّلام أراد ربطه وهو في الصلاة، يدل عليه صريح لفظ الحديث؛ حيث قال: «فأمكنني الله منه فأردت...» إلخ، فأتى بالفاء المفيدة للتعقيب؛ يعني: أنَّه وقت إمكانه منه أراد ربطه؛ لأجل ألا يفر منه، فيفوت المقصود وهو نظرهم إليه.

وقوله: (لأنَّ ربطه...) إلخ: ممنوع؛ لأنَّه يحتمل أنَّه عليه السَّلام كان قريبًا من السارية، أو أشار إليها لتقرب منه، وربطه لا يحتاج إلى عمل كثير؛ لأنَّ الكثير ما يستكثره الناظر، أو ما يفوَّض إلى رأي المصلي، والربط لا يكون كذلك، بل هو عمل يسير غير مفسد للصلاة، ورواية النسائي السَّابقة لا تدل على العمل الكثير؛ لأنَّه قال فيها: «فأخذته، فصرعته، فخنقته حتى وجدت برد لسانه»، فهي ظاهرة في أنَّها عمل يسير لا كثير، ويحتمل تعدد القصة، فكل رواية في قصة بانفرادها، وهو الأظهر، ويحتمل أنَّ على رواية النسائي يكون المعنى: فأخذته بيدي من رقبته حتى خنقته ووجدت برد لسانه، فهو عمل واحد يسير لا كثير كما زعمه؛ فليحفظ.

(فذكرت) أي: تذكرت (قول أخي) أي: في النُّبوة أو الدِّين (سليمان) هو ابن داود عليهما السَّلام الذي قال الله تعالى في حقه: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ العَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: ٣٠]؛ أي: مطيع رجَّاع، وسئل سفيان عن عبدين ابتلي أحدهما فصبر وأنعم على الآخر فشكر، فقال: كلاهما سواء؛ لأنَّ الله تعالى قد أثنى على عبدين أحدهما صابروالآخر شاكر ثناءًا واحدًا، فقال: في وصف أيِّوب: {نِعْمَ العَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}، وقال في وصف سليمان: {نِعْمَ العَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} انتهى، قلت: وعلى هذا لا فضل للغني الشاكر على الفقير الصابر، بل هما في الفضل سواء، وفيه خلاف؛ والجمهور على أنَّ الغني الشاكر أفضل من الفقير الصابر؛ لأنَّ نفعه عام لنفسه ولغيره فهو أولى بالفضل، وأمَّا الفقير الصابر؛ فنفعه قاصر على نفسه فقط؛ فليحفظ: ({رب اغفر لي})؛ أي: ذنبي، وهو من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين ({وهب لي}) [ص: ٣٥] كذا لأبي ذر، ولغيره: (رب هب لي) وإسقاط ({رب اغفر لي}) سوى ابن عساكر، فإنَّه رواه بلفظ (هب لي) فقط كما في (الفرع) و (أصله)، ووقع في رواية مسلم كرواية أبي ذر على نسق التلاوة.

قال ابن حجر: (والظَّاهر أنَّ غير رواية أبي ذر من تغيير بعض الرواة) انتهى.

قلت: وعليه فهو تصحيف من بعض الرواة، وليس كذلك؛ لأنَّ أكثر الرواة رووا: (ربِّ هب لي)، ولا يمكن اجتماع الجمهور على تصحيف الرواية، وكل راوٍ روى على ما سمعه فهذه الجرأة مذمومة؛ ولهذا قال الكرماني: (لعله ذكره على قصد الاقتباس من القرآن، لا على قصد أنَّه قرآن) انتهى، قلت: يعني: أنَّ رواية أبي ذر على قصد أنَّه قرآن، ورواية غيره على قصد الاقتباس من القرآن، وهذا ظاهر لمن له أدنى ذوق في العلم، ولا تغتر بما زعمه ابن حجر؛ لأنَّه صادر من غير تأمل؛ فليحفظ.

({مِلكًا}) بكسر الميم مفعول {هب}، وزعم العجلوني أنَّه بِضَمِّ الميم، قلت: وفيه نظر؛ لأنَّ القاعدة عند المحققين أنَّ المُلك إذا أضيف لله تعالى بِضَمِّ الميم؛ كقوله: {المُلْكُ اليَوْمَ (١) لِلَّهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ} [غافر: ١٦]، وإذا أضيف إلى العبد بكسر الميم؛ كقولنا: الدار مِلك زيد؛ فليحفظ.

فإن قلت: كيف أقدم سليمان على طلب الدنيا مع ذمها من الله تعالى وبغضه فيها وحقارتها لديه؟

قلت: هو محمول على أداء الحقوق لله تعالى وسياسة ملكه، وترتيب منازل خلقه، وإقامة حدوده، وظهور عبادته، ونظم قانون الحكم النافذ على خلقه منه، وتحقيق الموعود في أنَّه يعلم مالا يعلم أحد (٢) من خلقه حسب ما صرح بذلك لملائكته؛ حيث قال: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: ٣٠]، وحاشى سليمان عليه السَّلام أن يكون سؤاله طلبًا لنفس الدنيا؛ لأنَّه هو والأنبياء عليهم السَّلام أزهد خلق الله في الدنيا، وإنَّما كان سؤاله مملكتها لله تعالى؛ كما سأل نوح دمارها وهلاكها، وكانا محمودين مجابين إلى ذلك، فأجيب نوح فأهلك من عليها، وأعطي سليمان المملكة، وقد قيل: إنَّ ذلك كان بأمر من الله عز وجل على الصِّفة التي علم الله أنَّه لا يضبطه إلا هو وحده دون سائر عباده.

قال الحسن البصري: (ما من أحد إلا ولله عليه تبعة في نعمة غير سليمان فإنَّه قال: {هَذَا عَطَاؤُنَا..} الآية [ص: ٣٩])، قلت: وهذا يردُّ ما رُوي في الخبر أنَّ آخر الأنبياء دخولًا الجنة سليمان بن داود؛ لمكان ملكه في الدنيا، وفي بعض الأخبار: يدخل الجنة بعد الأنبياء بأربعين خريفًا ذكره صاحب «القوت»، قلت: وقد نص الحفاظ الثقات أنَّ هذا الحديث باطل لا أصل له؛ لأنَّه سبحانه إذا كان عطاؤه لا تبعة فيه؛ لأنَّه من طريق المنة، فكيف يكون آخر الأنبياء دخولًا الجنة وهو سبحانه يقول: {وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: ٤٠]، ويدل عليه ما عند المؤلف في «الصَّحيح» : «لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته...»؛ الحديث، فجعل له من قبيل السؤال حاجة مقضية، فلهذا لم تكن عليه تبعة، والله تعالى أعلم.

({لا ينبغي}) أي: لا يطلب ({لأحد من بعدي})؛ أي: من البشر أو أعم؛ أي: أن يسأله فكأنَّه عليه السَّلام سأل منع السؤال لأحد من بعده حتى لا يتعلق به أمل لأحد،


(١) {اليوم} : سقطت من الأصل.
(٢) في الأصل: (أحدًا)، وليس بصحيح.

<<  <   >  >>