ولم يسأل منع الإجابة، وقيل: إنَّ سؤاله ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده؛ ليكون محله وكرامته من الله ظاهرًا في خلق السماوات والأرض؛ لأنَّ الأنبياء عليهم السَّلام لهم تنافس في المحل عنده، فكل يحب أن تكون له خصوصية يستدل بها على محله عنده، ولهذا لما أخذ النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم العفريت المذكور، وأراد ربطه ثم تذكر قول أخيه سليمان؛ تركه مع القدرة عليه؛ حرصًا على إجابة الله دعوة سليمان وأنَّه مما اختص به، فلو أعطي أحد بعده مثله؛ ذهبت هذه الخصوصية، فكأنَّه عليه السَّلام كره أن يزاحمه في تلك الخصوصية بعد أن علم أنَّه شيء هو الذي خص به من سحرة الشياطين، وأنَّه أجيب إلى ألا يكون لأحد بعده، والله أعلم؛ فليحفظ.
وقال القاضي عياض: (امتنع عليه السَّلام من ربطه؛ إمَّا لأنَّه لم يقدر عليه؛ لأنَّه قد رده الله خاسئًا، وإما لأنَّه لما ذكر دعوة سليمان؛ لم يتعاطَ ربطه؛ لظنه أنَّه لا يقدر عليه أو تواضعًا وتأدبًا) انتهى.
قلت: يرد هذا ما جاء في رواية النسائي بقوله: «فأخذته، فصرعته، فخنقته حتى وجدت برد لسانه على يدي»، وعند ابن أبي الدنيا: «فأخذت بحلقه، فوالذي بعثني بالحق؛ ما أرسلته حتى وجدت برد لسانه على يدي، ولولا دعوة أخي سليمان؛ لأصبح طريحًا في المسجد»؛ فافهم، وأجاب العلامة القاري: (إنَّما تركه إيماء لكونه معجزة مختصة بسليمان)، قلت: وهو الظَّاهر؛ فتأمَّل.
قال القسطلاني: (وزاد في حاشية «الفرع» و «أصله» بعد قوله: «{بعدي}» مما ليس عليه رقم أحد من الرواة: «{إنَّك أنت الوهاب}»).
(قال روح) هو ابن عبادة المذكور في سند الحديث دون رفيقه محمَّد بن جعفر، فهو موصول لا غير، كما قاله إمام الشَّارحين، وقد تردد الكرماني في كونه معلقًا أو موصولًا، قلت: ولا وجه لتردده، بل هو موصول قطعًا بدليل رواية البخاري في (أحاديث الأنبياء) عن محمَّد بن بشار عن محمَّد بن جعفر وحده، فزاد في آخره أيضًا: «فرددته خاسئًا»، وفي رواية مسلم: «فرده الله خاسئًا»، فعلى هذا دلَّ على أنَّ قوله: (قال روح) داخل تحت الإسناد، كما لا يخفى، ولعل الكرماني لم يطلع على ذلك؛ فافهم: (فرده) أي: رد النَّبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم العفريتَ حال كونه (خاسئًا)؛ أي: مطرودًا بعيدًا، وفي «الصِّحاح» : خسأت الكلب: طردته، وخسأ الكلب نفسه، يتعدى ولا يتعدى، ويكون الخاسئ بمعنى: الصاغر الذليل، وفي «المحكم» : (الخاسئ من الكلاب والخنازير والشياطين بالبعد: الذي لا يترك أن يدنو من الناس، وخسأ الكلب يخسأ خسئًا وخسوءًا، فخسأ وانخسأ، ويقال: أخسأُ إليك وأخسأْ عني) انتهى.
قلت: فعلى ما شرحنا يكون فاعل (رده) النَّبي الأعظم عليه السَّلام، ويؤيده رواية المؤلف في (الأنبياء) لكن عن محمَّد بن جعفر وحده: «فرددته خاسئًا»، ويحتمل أن يكون فاعل (رده) الله تعالى، ويؤيده رواية مسلم من طريق النضر عن شعبة بلفظ: «فرده الله خاسئًا»، قيل: وفي بعض النُّسخ هنا: (فرده الله خاسئًا)؛ فافهم.
قال إمام الشَّارحين: (وجه مطابقة الحديث للتَّرجمة في قوله: «الأسير» ظاهرة، وأمَّا قوله: «والغريم»؛ فبالقياس عليه؛ لأنَّ الغريم مثل الأسير في يد صاحب الدين، ففي الحديث: دليل على إباحة ربط الأسير والغريم في المسجد، وعلى هذا بوَّب البخاري، ومن هذا قال المهلب: إنَّ في الحديث جواز ربط من خشي هروبه بحقٍّ عليه أو دين والتوثق منه في المسجد وغيره) انتهى.
وقال الخطابي: (فيه دليل على أنَّ رؤية البشر الجنَّ غير مستحيلة، والجن أجسام لطيفة، والجسم وإن لطف؛ فدركه غير ممتنع أصلًا، وأمَّا قوله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: ٢٧]؛ فإنَّ ذلك حكم الأعم الأغلب من أحوال بني آدم، امتحنهم الله بذلك وابتلاهم؛ ليفزعوا إليه، ويستعيذوا به من شرهم، ويطلبوا الأمان من غائلتهم، ولا ينكر أن يكون حكم الخاص والنادر من المصطفين من عباده بخلاف ذلك) انتهى، واعترضه الكرماني فقال: (لا حاجة إلى هذا التأويل إذ ليس في الآية ما ينفي رؤيتنا إياهم مطلقًا، إذ المفاد منها أنَّ رؤيته إيانا مقيدة بهذه الحيثية، فلا نراهم في زمان رؤيتهم لنا فقط، ويجوز رؤيتنا لهم في غير ذلك الوقت) انتهى، قلت: وقد تبعه البيضاوي؛ حيث قال: (ورؤيتهم إيانا من حيث لا نراهم في الجملة لا يقتضي امتناع رؤيتهم وتمثلهم لنا) انتهى، يعني: في بعض أحوالهم، وهو حال بقائهم على صورهم الأصلية؛ لأنَّ حديث الباب وغيره يدل على رؤيتهم، وهو جواب عنه؛ فافهم.
وقال الإمام جار الله الزمخشري في قوله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} فيه دليل بيِّن على أنَّ الجن لا يُرون، ولا يظهرون للإنس، وأنَّ إظهارهم أنفسهم ليس في استطاعتهم، وأنَّ زعْمَ من يدعي رؤيتهم زور ومخرقة) انتهى، واعترضه العجلوني فقال: (حديث الباب وغيره من الأحاديث يرده) انتهى، قلت: ما بلغ هذا رتبة الرد على مثل هذا الإمام؛ لأنَّ الآية صريحة فيما قاله، وأما الحديث وغيره؛ فليس فيه ردٌّ لما قاله؛ لأنَّ رؤية النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم العفريتَ خاص به دون غيره من أمته، كما أنَّ رؤيته الملائكةَ خاص به، يدل عليه أنَّه عليه السَّلام لما خرج في جنازة بعض أصحابه؛ مشى على رؤوس رجليه، فسئل عن ذلك، فقال: «لازدحام الملائكة»، فأصحابه لم يروا الملائكة وقتئذٍ، وكذلك الجن؛ فإن رؤيتهم كانت خاصة به عليه السَّلام دون غيره من الأُمَّة، ويدل على الخصوصية أنَّ أحدًا من أصحابه لم ير أحدًا منهم، إلا أنَّ إظهارهم أنفسهم ليس في استطاعتهم، وذلك لأنَّهم لا قدرة لهم على تغيير خلقهم والانتقال في الصور، وإنَّما يظهرون إذا فعلوا ضروبًا من الأفعال أو قرأوا كلمات علمهم الله إياها، إذا فعلوها أو تكلموا بها؛ نقلهم الله من صورة إلى صورة أخرى، ولا يمكن أن يصوروا أنفسهم؛ لأنَّ ذلك محال؛ لأنَّه يلزم منه نقض البُنية؛ وهو يستلزم تفريق الأجزاء؛ وهو يستلزم إبطال الحياة، فالصورة الحقيقية التي لهم لا ترى للأنس أصلًا، إنَّما يرى صورة أخرى كما ذكرنا، هذا معنى كلام الإمام جار الله، وقد خفي هذا على العجلوني حتى قال ما قال ولم يدر المقال؛ فافهم.
وفي «عمدة القاري» : (قال ابن بطال: ورؤيته عليه السَّلام العفريتَ هو مما خُصَّ به كما خصَّ برؤية الملائكة، وقد أخبر عليه السَّلام: أنَّ جبريل عليه السَّلام له ست مئة جناح، ورأى النَّبي عليه السَّلام الشَّيطان في هذه الليلة، وأقدره الله عليه لتجسمه؛ لأنَّ الأجسام ممكن القدرة عليها، ولكنَّه ألقى في روعه ما وهب سليمان عليه السَّلام، فلم ينفِّذ ما قوي عليه من حبسه؛ رغبة عما أراد سليمان الانفراد به وحرصًا على إجابة الله دعوته، وأمَّا غير النَّبي عليه السَّلام من الناس؛ فلا يُمكَّن منه، ولا يرى أحدٌ الشَّيطانَ على صورته غيره عليه السَّلام؛ لقوله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ...}؛ الآية، لكن يراه سائر الناس إذا تشكل في غير شكله، كما تشكل الذي طعنه الأنصاري حين وجده في بيته في صورة حية فقتله، فمات الرجل به، وبيَّن النَّبي عليه السَّلام ذلك بقوله: «إنَّ بالمدينة جنًّا قد أسلموا، فإذا رأيتم من هذه الهوام شيئًا فآذنوه ثلاثًا، فإن بدا لكم؛ فاقتلوه»، رواه الترمذي والنسائي في «اليوم والليلة» من حديث أبي سعيد الخدري) انتهى، قلت: وهذا يؤيد ما قلناه آنفًا؛ فافهم.
وحديث الباب رواه مسلم، قال النَّووي في «شرحه» : فيه دليل على أنَّ الجن موجودون وأنَّهم قد يراهم بعض المؤمنين، وأمَّا قوله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ...}؛ الآية؛ فمحمول على الغالب، فلو كانت رؤيتهم محالة لما قال النَّبي عليه السَّلام